الصراعات في العالم العربي...دنيوية لا دينية
بعد ثلاثة أعوام من انطلاق الثورات في العالم العربي باتت هذه الثورات تقدم صورة كئيبة. فالاحتجاجات التي بدأت بمطالب ليبرالية، آلت بطرق مختلفة إلى سيناريوهات يوجِّهها متديِّنون متشدِّدون: إذ أنّ هناك سُنَّة متطرفين في سوريا يهددون بتقويض مصداقية كل المعارضة ضد الأسد وإسلامويين في بنغازي الليبية يناوشون القوات الحكومية بالسلاح باسم الشريعة والقاعدة وهنالك غوغاء متطرفة في تونس تُنزِل الأذى بكل من يختلف عنها بالرأي؛ وفي مصر يوجد الإخوان المسلمون الذين دُفِع بهم إلى العمل السرّي بعد عزل الرئيس مرسي وهم مستعدون للدفاع حتى النهاية عن الحكومة، التي تم الإطاحة بها عن السلطة.
يبدو الاستنتاج التالي إجبارياً، وهو أن: بلدان العالم العربي حتى بعد ثوراتها التي بدأت بتوجهات ليبرالية، لا يمكن لها كما يبدو الانفكاك عن الدين باعتباره القوة السياسية المهيمنة. ويبقى الإسلام السياسي بطاقاته السياسية العارمة عامل القوة المهيمن في المنطقة.
هيمنة الخطاب الديني
لكن هناك أيضًا إمكانية لمقاربة أخرى. هذه المقاربة يكشف عنها في كتابه الأخير المؤرخ اللبناني والخبير الاقتصادي جورج قرم، الذي كان في أواخر التسعينيات وزير المالية في بلاده. يحمل الكتاب موضع اهتمامه في العنوان "Pour une lecture profane des conflits" (نحو مقاربة دنيوية للنزاعات).
فالغرب يرتكب خطأً حين يركِّز جلَّ اهتمامه على الدين، كما يذكر جورج قرم. ويرى أن الأحداث في العالم العربي مرتبطة في الواقع بمسائل مختلفة تمامًا وهي: التوزيع العادل للسلطة والموارد، ودولة القانون الفعلية، والمشاركة الديمقراطية. لكنه يرى أيضا أن اللغة المناسبة للتعبير عن هذه المطالب لم توجد بعد، أو بتعبير أفضل: لمْ تستطع هذه اللغة حتى الآن فرض نفسها إزاء الخطاب الديني السائد.
على مدى ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن كانت كل معارضة تستحق الذكر في العالم العربي تابعة للمعسكر الديني. وقد ترك هذا آثارًا لا يمكن إزالتها بين ليلة وضحاها.
مُصدِّرو الأصولية
يرى جورج قرم أنَّ سبب هيمنة الدين تكمُن في الدعم المتعمد للدين في العالم العربي وفي المقام الأول من قِبَلِ المملكة العربية السعودية، فدولة النفط التي تملك وسائل مالية وعقائدية كبيرة، تصدِّر تفسيرًا أصوليًا للإسلام. وهو تفسير عمل باستمرار وبإصرار على إقصاء الخطاب العلماني اليساري.
ويروي أنَّ الطروحات الماركسية كانت شائعة جدًا في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية. لكن، منذ أواخر الستينيات وبعد صدمة هزيمة حرب الأيام الستة عام 1967 والطفرة النفطية التي بدأت بعد ذلك بفترة قصيرة، قلّما تمكنت هذه الطروحات من إثبات نفسها.
ومنذ ذلك الحين أيضا، قلما كان هنالك نماذج ملهمة في الغرب. فالغرب يميل منذ فترة غير قصيرة إلى نسيان أكثر تقاليده نُبلاً، ألا وهو: التنوير. فمن قبل كان الغرب يهتم تمام الاهتمام بكيفية توزيع السلطة والثروة، تحت شعار: "حرية، مساواة، إخاء".
التمعُّن بمختلف آليات التوزيع، والتساؤل عن الأطراف المستفيدة من كل منها، كانا قبل فترة ليست طويلة يشكلان في الغرب جوهر كل دراسة سياسية، وفق جورج قرم. ويرى أنَّ الحال لم تعُد كذلك في الوقت الراهن، وأنَّ التركيز الآن يجري على القضايا الثقافية بدلًا من الاقتصادية، ما يعتبره قرم خطأً فادحًا ينبثق من أيديولوجية تنسجم بشكل خفي مع الأصولية الدينية ألا وهي "عقيدة التعددية الثقافية".
مطبات عقيدة التعددية الثقافية
ما هي عقيدة التعددية الثقافية؟ إنها بالنسبة لقرم عقيدة تدفع إلى منح جميع الأقليات قيمةً مطلقةً غير قابلةٍ للنقاش. فسواء كانت مجموعاتٌ دينية أو أقلياتٌ عرقية أو جماعاتٌ ثقافية، لا توجد اليوم مجموعة وفقاً لقرم إلا وتطالب بالاعتراف المطلق وغير المحدود بخصائصها ومعتقداتها ومُثُلها العليا، وبالتالي تضعها فوق اعتبار المجتمع ككل وفوق مصلحة الجمهورية، غير آبهة بمخاطر ذلك.
بحسب جورج قرم لا تدور الكثير من الصراعات داخل المجتمعات الغربية حول قضايا السياسة، بل حول قضايا تتعلق بالهوية، التي يرى أنها غير قابلة للتفاوض، وبالتالي لا يمكن حلها.
وفي ظل عقيدة التعددية الثقافية جرى أيضًا في الغرب تأويل وحسم نزاعات سياسية واقتصادية في الصميم على أنها ثقافية. هذه العادة المنتشرة على نطاق واسع في الغرب تدفع بدورها بحسب جورج قرم إلى تفسير الصراعات الحالية في الشرق الأوسط على أنها حصرًا ثقافية، أو على نحو أسوأ، على اعتبارها دينية.
الديكتاتوريات العلمانية
إنَّ تفسير جورج قرم العلمي الثقافي للإدراك الغربي للصراعات القائمة حاليًا في الشرق الأوسط تفسيرٌ فذ. إلا أنَّ السؤال هو، هل هذا التفسير صائب، ذلك لأنَّ الكثير من الناس في العالم الغربي قد تعلمَّ بالفعل، أنْ يمعن النظر وأنْ يأخذ مطالب المحتجين منذ الساعات الأولى على محمل الجد.
يمكن تتبُّع قرم جيدًا في حديثه عن أنَّ العلمانية العربية قد جلبت لنفسها السمعة السيئة. عبد الناصر والسادات ومبارك في مصر، وبن علي في تونس، وصدام حسين في العراق، الأسد الأب والابن في سوريا، بنوا جميعهم أنظمة ديكتاتورية داست بأقدامها على حقوق المواطنين، وأطلقت أجهزة استخباراتها على كل من تجرَّأ وشكَّك بسلطتهم وطالب بإصلاحات.
لم تفقد مفاهيم الديمقراطية وسيادة القانون كل قيمة لها وحسب، إنما صار عليها التغطية على جرائم الأنظمة التقدمية المزعومة أيضًا، وانقلبت من مُثلٍ سياسيةٍ عُليا واعدة إلى نقيضها.
إن حقيقة تعامل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية مع هذه الأنظمة قد سبب المزيد من الضرر لسمعة هذه القيم. والسياسة الواقعية للدول الغربية، التي تود أنْ تظهر بمظهر المُعلِّم الأخلاقي، جعلت من الصعوبة بمكان حتى على مؤيديها الأكثر مثالية عدم اليأس منها. "اتفاق اقتصادي هام، أو إقامة قاعدة عسكرية، أو لفتة باهرة للصداقة تجاه إسرائيل كفيلة بإسكات هذه الدروس الأخلاقية بسرعة، الأمر الذي يصعب باطراد تحمُّله من قبل المجموعات السياسية في البلدان المعنية".
"يا جمهوريي العالم ..."
استطاع الغرب لفترة طويلة من الزمن تأويل النزاعات في المنطقة على أنها نزاعات ذات طابع ديني أو ثقافي، وبذلك وفَّر على نفسه الاعتراف بالعواقب الوخيمة المتكررة لسياسته، ووفر على نفسه تغييرها بحسب هذه العواقب. أما الآن، كما يقول قرم، ربما يكون الوقت قد حان لرؤية الصراعات مجددًا ضمن الإطار المناسب لها بالفعل.
يشترط هذا الأمر حوارًا صادقًا وتوديع السخافات القائمة حتى الآن بحسب جورج قرم، الذي يلخِّص برنامجه بعبارة "يا جمهوريي العالم اتحدوا!".
كيرستن كنيب
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014
كتاب جورج قرم: نحو مقاربة دنيوية للنزاعات، 256 صفحة.
"Pour une lecture profane des conflits", Éditions La Découverte