لماذا فشل الإسلام السياسي في الانتقال إلى الديمقراطية؟
كانت ثورات الربيع العربي بمثابة إيذانٍ بدخول الإسلاميين إلى اللعبة السياسية، وشكّلت الانتصارات الانتخابية التي حققتها الحركات الإسلامية في مصر وتونس والمغرب، وكذا انخراط السلفيين في اللعبة السياسية، مؤشّراً على قدرة الإسلام السياسي على شق طريق ثالث، قادر على العبور بدوله نحو الديمقراطية. لكنّ أغلب تجارب الإسلام السياسي التي حالفها الحظ في الوصول إلى السلطة، وشكّلت بديلاً جذّاباً إلى حد ما لكثير من الشعوب العربية الخارجة للتو من تحت رقبة أنظمة قمعية وسلطوية، باءت بالفشل أو أُفشِلَت قبل أن تنضج. احتضار آخر هذه التجارب هو ما نشهده اليوم في تونس، مع الزلزال الذي أحدثته قرارات الرئيس قيس سعيّد، وآثار ارتداداته الداخلية على حزب النهضة، الإسلامي الذي أنهكته عشر سنوات من المشاركة السياسية الفاشلة وغير المنتجة. وغير بعيدٍ من تونس، بلغت تجربة حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة في المغرب منذ عشر سنوات، مرحلة الإنهاك، بعد أن فشل الحزب في تحقيق وعود الإصلاح من الداخل التي بنى عليها حملاته الانتخابية.
أسباب فشل تجارب الإسلام السياسي في السلطة كثيرة، ولا يمكن حصرها والإحاطة بها في مقال سيّار، هدفه قراءة الأحداث وتحليلها بقصد فهمها ونقدها أو فقط التعليق عليها. ولكن يمكن الوقوف عند العناوين الكبيرة لهذا الفشل المزدوج، لأن له أسبابه الداخلية وأخرى خارجية لا تقلّ أهمية عن تلك المرتبطة بإيديولوجية هذا الفكر وتكوين المنتمين إليه وكفاءتهم، وبحروب أهله الداخلية التي لا تختلف عن التي توجد في كل التنظيمات السياسية والمجتمعات البشرية.
ولو بدأنا بأهم الأسباب الخارجية، فهي تتعلق أولاً قبل كل شيء بالثورات المضادة المدعومة من التحالف الإماراتي السعودي الذي لم يكن يخفي خوفه من ثورات الشعوب، وسعى بكل الوسائل إلى الوقوف ضدها، وإفشال مساراتها أو تحويلها، سواء من طريق عسكرة تلك الثورات وتسليحها، مثلما حصل في سورية، أو التدخل في الشؤون الداخلية لدولها وجرّها إلى حروبٍ أهليةٍ قاتلة مثلما حصل في اليمن وليبيا، أو التدخل عسكرياً، تحت غطاء التحالفات الإقليمية، لإجهاضها كما جرى في البحرين. أو تقديم الدعم المالي والغطاء الإعلامي، سواء للانقلاب عليها كما شهدت ذلك مصر، أو تحوير مساراتها كما حدث في الأردن والمغرب ويحدث في تونس منذ عدة سنوات.
فشل تجارب حركات الإسلام السياسي لا يعني، بالضرورة، نهاية الدين في المجتمع
على المستوى الداخلي، أسباب كثيرة لا تُعَدّ ولا تُحصى كانت وراء تعثّر تجارب الإسلام السياسي وفشلها، الذي وصلت أحزاب أو حركات منه إلى سدّة السلطة في بلدانها، سواء في مصر أو تونس أو المغرب. أول هذه الأخطاء كان ذا طبيعة تكتيكية، يتعلق بتدبير (تسيير) مرحلة الانتقال الديمقراطي في البلدان التي شهدت إرهاصات هذا الانتقال. لكن حركات الإسلام السياسي في كل هذه الدول ارتكبت أخطاءً قاتلة، وضعتها في صف الثورات المضادّة، بقصد أو دونه.
فالإسلاميون في مصر عندما سيطروا على البرلمان أول الأمر، ولو أن ذلك حصل من طريق انتخابات حرة ونزيهة، إلا أنهم رفعوا شعار شرعية البرلمان قبل شرعية الميدان، وكانت تلك بداية خصومتهم مع الشارع المصري الذي وحّدته ثورة يناير في الميدان، رمز الشرعية الشعبية التي أراد "الإخوان المسلمون" اختزالها في برلمانٍ كانوا يسيطرون على أغلبية مقاعده. وفي المغرب الذي وصل فيه الإسلاميون إلى الحكومة، بفضل حراك شعبي تلقائي سرعان ما ناصبوه العداء، وسعوا طوال فترة ترؤسهم الحكومة التي ستنتهي ولايتها الثانية الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، للحصول على رضى السلطة أولاً، وأحياناً كثيرة على حساب قمع الشعب واضطهاده وسنّ قوانين جديدة مقيّدة لحرياته وحقوقه، أو الزيادة في الضرائب التي تنهك كاهله أو حجب الدعم المرصود لمواد أساسية تخصّ قوته اليومي. وفي تونس التي كانت تعتبر نموذجاً ناجحاً لتجربة الإسلام السياسي، أدّت أخطاء حزب النهضة، وحساباته السياسية الضيقة وطموح زعاماته السياسية للوصول إلى السلطة والمكوث طويلاً في كراسيها، إلى تآكل التجربة من الداخل. وكان أكبر أخطائها تحالفهم مع أعداء الثورة وفلول النظام السابق وأعوان الثورات المضادّة، عندما تحالفوا مع حركة "نداء تونس" أولاً، ثم بعد ذلك مع حزب "قلب تونس"، ونسوا وعودهم بعدم الترشّح إلى مناصب مهمة مثل رئاسة الدولة. وفي النهاية، اكتفى زعيمهم راشد الغنوشي برئاسة واحد من أسوأ البرلمانات في التجربة التونسية ما بعد الثورة، معرّضاً نفسه كل أسبوع، في أثناء فترات البث المباشر لأعمال البرلمان على التلفزيون الرسمي، لوابل من السباب والشتائم من "برلمانيات" و"برلمانيين" محسوبين على النظام الذي أسقطته الثورة، ومدعومين من عرّابي الثورات المضادّة في المنطقة العربية.
قلة التجربة والافتقار إلى الكفاءات العالية حوّلا التجارب إلى أخطاء فادحة، أدّى الشعبان في تونس والمغرب ثمنها
ولن أقف كثيراً عند الفشل في التدبير والتسيير الذي اعترى تجارب كل الحكومات التي قادها الإسلاميون، وخصوصاً في التجربتين، التونسية والمغربية، اللتين كان لهما ما يكفي من الوقت لتنفيذ برامجهما وتطبيقها على أرض الواقع، لكن قلة التجربة والافتقار إلى الكفاءات العالية حوّلا تلك التجارب إلى أخطاء فادحة، أدّى الشعبان في تونس والمغرب ثمنها غالياً من حقوقهما المكتسبة عبر سنوات من النضال، ومن كرامتهما التي أهدرت، وما زالت تبعاتها متواصلةً بفعل الآثار البعدية أو المستمرة لتلك الأخطاء التي تضمنتها قوانين نافذة، وستبقى سارية المفعول، حتى تأتي حكومات مستقبلية تعدّلها أو تغيرها.
ليست أطروحة فشل الإسلام السياسي جديدة، فقد ظهرت بعد أن فشلت الحركات التي حملت لواء البحث عن طريقٍ ثالث بعد سقوط الشيوعية ونهاية الحرب الباردة، في إيجاد مسلك نحو هذه الطريق الموعودة التي لم تكن، في الحقيقة، سوى مجموعة من النيات المبنية على الاعتقاد الساذج بأن الفضيلة وحدها كافية لبناء المجتمع الصالح. وعلى الرغم من أن حركات الإسلام السياسي التي حملتها رياح الربيع العربي إلى السلطة قد بدت واعدة في إنجاز تحوّل عميق للإسلام السياسي، وقبول الديمقراطية وقواعدها، والتخلي عن اعتبار الإسلام والشريعة مصدراً للسيادة، والتعامل معهما مرجعاً ثقافياً وهوياتياً. وبالتالي، تحوّل المشروع السياسي إلى مشروع اجتماعي، يصبو إلى بناء ديمقراطية اجتماعية محافظة. لكن فشل تجارب حركات الإسلام السياسي في كل الدول التي شهدت وصولها إلى السلطة سيؤخر إلى عقود طويلة مقبلة بروز مشاريع نابعة من الإسلام السياسي، وحاملة وعود بناء الديمقراطية الموعودة. ويبقى أن فشل تجارب حركات الإسلام السياسي لا يعني، بالضرورة، نهاية الدين في المجتمع. وفي هذه الحالة، المقصود هو الإسلام الذي سيبقى، حتى ما بعد فشل الإسلاميين، مرجعية ثقافية وهوية، وهو ما يجعله يسمو على كل أنواع الإيديولوجيات السياسية القابلة للفشل والنجاح وللاستمرار وللفناء على حد سواء.