أبطال ميدان التحرير المنسيون
حين يكون كريم مع كاميرته في شوارع القاهرة يخبئ دائماً ذاكرة التخزين الإلكترونية (الخاصة بالكاميرا) في حذائه. وذلك نظراً لأنه حين يمشي في وسط المدينة أو يغادر محطة قطار الأنفاق (المترو) يكون له عناصر التفتيش دوماً بالمرصاد.
فَـ "التقاط صورة واحدة كفيل بالزج به في السجن"، كما يقول كريم. ففي الآونة الأخيرة أُلقي القبض من جديد على أحد رفاقه بسبب صورة كان التقطها لشروق الشمس من شرفة منزله.
كريم -الذي كان قبل خمس سنوات لا يزال يؤمن بالديمقراطية في مصر- لم يتبقَّ لديه اليوم وهو في أواخر العشرينيات من العمر أي أمل. "ظننتُ أن ما سيتبقى لنا من الثورة هو حرية التعبير على الأقل، وأن هذه الآلهة الصغيرة -التي ليس من المسموح السخرية منها- ستختفي"، كما يقول كريم. لكن خِفَّة دم المصريين المعروفة اختفت ولم يعد يتم الشعور بها منذ زمن طويل.
"عندما تقول شيئا خاطئاً سَتُودَع السّجنَ، وحين تذهب إلى موضع خاطئ يُزَجُّ بك في السجن، وعندما تكون سويةً مع الأشخاص الخطأ فستكون بعدها أيضاً في السجن".
مال ومكان لسجون جديدة
ووفق منظمة العفو الدّولية، تم اعتقال 34 ألف على الأقل من المشتبه بمعارضتهم للحكومة وذلك منذ صيف عام 2013، فيما تحدثت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ANHRI حتى عن 60 ألف سجين سياسي. ورغم الأزمة المالية والاقتصادية المستمرة في هبة النيل إلا أن مصر قامت ببناء 19 سجناً جديداً، يتسع أكبرها لـ 15 ألف شخص. و"الرسالة هي" -بحسب استنتاج الشبكة العربية لمعلومات لحقوق الإنسان- "أنه يوجد في السجون دوماً أماكن كافية لحبس كل من يقف في وجه النظام".
ومنذ عام 2014 على أقصى تقدير، أي منذ أن أصبح قائدُ الجيش السابقُ عبد الفتاح السّيسي رئيساً للدّولة، يقف نشطاء الديمقراطية المصريون هنالك وحدهم بلا دعم أو سند.
إنهم أولئك الذين خاطبهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما عام 2009، ووعدهم في خطابه الشهير في جامعة القاهرة، بأن يتبنى سعيهم للحصول على مطالب الحرية ومبدأ سيادة القانون.
وأكد لهم أوباما حينها قائلاً إن "قمع الأفكار لا يؤدي على الإطلاق إلى تلاشيها". ولكن واشنطن تركز اليوم على مزيد من التعاون العسكري، و قد أرسلت إلى مصر مؤخراً شحنة عسكرية مكونة من عربات مدرعة مضادة للألغام.
وفي حين نسي العالم منذ فترة طويلة أبطال الماضي في ميدان التحرير، إلا أن نواةً صلبةً منهم ما زالت تمارس نشاطها في البلاد. فمثلاً وائل غنيم -قائد ما يدعى بثورة فيسبوك عام 2011- يعيش حالياً في أمريكا، ويعمل في منطقة وادي السيلكون التقنية.
و قد استسلمت حتى المؤسسات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية، التي رعَت بأعداد وفيرة "المجتمع المدني" المصري في وقت ما، وبعد اتهام موظفيها بالعمل غير القانوني لغرض التمويل غير المشروع، حيث أدينوا وعوقبوا بالسجن. ومن هذه المنظمات مؤسسة كونراد آدينوَر الألمانية ومؤسسة فريدَم هاوس الأمريكية.
اختفاء أحَد حَمَلة الأمل
أحد أهم حَمَلة أمل الشباب غادرَ البلاد منذ مدة طويلة، وهو محمد البَرادعي. البرادعي استقال من منصب نائب الرئيس، بعد أن فضّ الجيش بقوة السلاح احتجاجات حاشدة لجماعة الأخوان المسلمين في أغسطس (آب) عام 2013. وعادَ البرادعي الحاصل على جائزة نوبل للسّلام ليعيش في فيينّا من جديد. "أنا ممتعض من أنه يتفرج من بعيد"، يقول كريم، مضيفاً أن البرادعي "صاحب نفوذ وكان بإمكانه تحريك الكثير من الأمور. وما كان لهم أن يزجوا به ببساطة في السجن".
ومن أبرز الناشطين الذين ما زالوا يعملون اليوم من أجل الحقوق الأساسية المحامية في مجال حقوق الإنسان "ماهينور المصري"، التي كانت حتى وقت قريب في السجن بسبب نشاطها. كريم أيضاً ناشط سياسي، و"كريم" هو ليس الاسم الحقيقي له لأنه يخشى أن يتم القبض عليه، لكن من غير الوارد لديه أن يذهب إلى الخارج. وعدم اعتقاله إلى الآن هو محض مصادفة على الأغلب، ولذلك فاسمه في هذا المقال هو اسم مستعار.
مسجون في بلاده
في ربيع السنة الماضية ألقي القبض على معظم أصدقائه نظراً لأنهم خرجوا في احتجاجات ومظاهرات إلى الشوارع. وكريم أحس خصوصاً في ذلك الوقت بأنه لا حول له ولا قوة . ويقول: "للتعبير عن نفسي بحرية لم يتبقَّ لي سوى فيسبوك". لكن وسائل التواصل الاجتماعي مراقبة أيضاً. وفي حين أنه في عهد حسني مبارك كانت الشرطة فقط هي من تلاحق المعارضين للنظام، صار اليوم الجيش أيضاً يشارك في ملاحقتهم على نطاق واسع.
فخلال سنة ونصف قُدِّم ما يزيد عن سبعة آلاف مدني للمحاكمة العسكرية، وفق ما ذكرت منظمة حقوق الإنسان هيومَن رايتس ووتش. ويقول كريم في هذا السياق: "أشعر وكأني أختنق، إنني سجين في بلادي".
الوضع الاقتصادي يبدو معتماً أيضاً: فتراجعت إيرادات قناة السويس رغم توسيع القناة، وامتنع السيّاح عن الذهاب إلى مصر منذ حادثة تحطم الطّائرة الروسية، واستمرّ الجنيه المصري بفقدان قيمته، وارتفعت الضرائب، وبات حوالي خمسين في المئة من الشباب عاطلين عن العمل.
بيد أنّ كريم متأكدٌ من أنه سيكون هنالك ثورة مرة ثانية، ولكن هذه المرة ستكون بسبب الجوع.
ويرى المراسل الصحفي البريطاني تيم مارشال المختص بشؤون الشرق الأوسط في كتابه "قوة الجغرافيا" أن المرحلة الثانية للانتفاضات جارية وأن هذا الانتفاضات "متعلقة بصراع داخلي معقد في المجتمع، يصبح فيه الدّين والأعراف والتقاليد الاجتماعية والروابط القبلية والبنادق أقوى بكثير من المثل والقيم الغربية مثل المساواة وحرية الرأي والاقتراع العام".
ويذكر في كتابه أن اللّيبراليين ربما ليست لديهم فرصة حقيقية في هذا الصراع، "فحين يكون الناس جياعاً وخائفين ثم يخيَّرون بين الخبز والأمن، وبين مفهوم الديمقراطية، فبالتأكيد لن يكون الخيار صعباً".
السلفيون المصريون...السلطة الثانية في الدولة
وبينما يخسر في هذا الصراع الإنسانيون يصب ذلك في مصلحة فئة من الإسلاميين الذين ينشطون، حيث تفشل الدولة. ففي حين حظر نظام السيسي منذ وقت طويل جماعة الإخوان المسلمين الساعية للسلطة، لكنه يتساهل مع الإسلاميين الذين لم يكونوا ناشطين تقليدياً في مجال السياسة.
لأنهم يعيشون وفق قاعدة طاعة ولي الأمر الحاكم إذا كان مسلماً ولا يضر بالإسلام. لذلك يوزع السلفيون المواد الغذائية للناس ويحثونهم على خشية الله ويعِدونهم بالسعادة الأبدية في الجنة. وأصبحوا بذلك إلى جانب الجيش المجموعة الوحيدة المنظمة - بل والسلطة الثانية في الدولة.
والوضع يبدو مماثلاً في بلدان أخرى في المنطقة. ولكن ما يجعل منسيّي العالم العربي يواصلون كفاحهم هو تلك الانتصارات الصغيرة الموجودة أحياناً كما يرينا هذا المثال من مصر:
فحين وعد الرئيس المصري السيسي المملكة العربية السعودية بجزيرتين في البحر الأحمر في أبريل (نيسان) 2016، خرج ولأول مرة منذ زمن طويل الناسُ للاحتجاج في الشوارع. بيد أن الجيش والشرطة تدخلا لفض الاحتجاجات بالقوة بعد بضع فقط دقائق من بدئها.
وقضت محكمة في وقت لاحق على 47 متظاهرا بدفع غرامة مالية قدرها 100 ألف جنيه مصري، أي ما يعادل حوالي 10 آلاف يورو. وبذلك كان على الناشطين الشباب أن يدفعوا إجمالياً نصف مليون يورو. لكن في ذلك الوقت كان سَخَطُ كثيرٍ من المصريين كبيراً لدرجة أنهم باتوا بمثابة دعم غير متوقع للناشطين. "بلدنا هو الوحيد الذي لا يزال متبقياً لدينا"، كما يرِدُ في خلاصة قول كريم، ويضيف: "الجيش الذي كان دائماً يعِد بحماية بلدنا هو نفسه يبيع البلد الآن بثمن بخس".
وحين أطلق نُشطاء نداءً عبر فيسبوك وبالكلام حملة لجمع التبرعات كانت هنالك استجابة مذهلة. "فقد جاء أناس كُثُر للغاية وتبرعوا بما استطاعوا إليه سبيلا. وفي كثير من الأحيان كانت التبرع بمبالغ صغيرة تم ادخارها بمشقة كبيرة"، كما يقول كريم. ولكن بعد عشرة أيام تَمّ بالفعل جمع المبلغ المطلوب من التبرعات. "فقد حضرت روح الثورة لفترة وجيزة هناك".
ماي دودين
ترجمة: سلمى العابد
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016