"أخواتي وإخواني الفلسطينيين.. نحتاج إلى نموذج مقاومة جديد"
يؤسفني القول إن الخطاب الفلسطيني السائد يقمع أي نقد سياسي فلسطيني داخلي لحركة حماس. فهو يرى أن "الوقت لم يَحن بعد" لانتقاد الحركة التي تقف وحدها في مقدمة النضال ضد الاحتلال. وعليه ووفقًا لهذا الطرح، يجب علينا في الوقت الحالي قبول أيديولوجية حماس الإسلامية الكارثية التي تُهمش الرواية الفلسطينية الوطنية العلمانية التي تمثل معظم الفلسطينيين داخل غزة وخارجها.
لمَنْ لا يعرف، يتم الرد على القلة القليلة التي تجرؤ على انتقاد الحركة، أفعالها وتبعات هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول على غزة دائمًا، بالشعار الذي حولته حماس لاصطلاح فارغ: "من حقنا أن نقاوم!". نعم؛ فقد تحول هذا الشعار للجواب الوحيد والأوحد لكل الأسئلة الأخلاقية والقيمية والسياسية التي قد تقوض المقاومة بصيغتها الحَمساوية، وكأن عبارة "من حقنا أن نقاوم!" ليست مجرد إجراء مؤقت، بل فريضة إلهية.
قبل تناول حوار المقاومة الذي فرضته حماس على كل الفلسطينيين، أنوه بأن النضال من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي هو حق مَشروع نصَ عليه القانون الدولي.
التدمير كمعيار للنجاح
لكن شعار "من حقنا أن نقاوم!" بصيغته الحَمساوية خطير بل وكارثي، لأنه يعتبر الإبادة الجماعية، والتدمير وإبادة عائلات بأكملها في غزة ثمناً ضرورياً ومتوقعاً بالطريق للتحرير الوطني المنشود. فبحسب هذه الرواية، كل الخسائر والدمار الذي شَهدناه وما زلنا نَشهده يقربنا نحن الفلسطينيين من أهدافنا السياسية والوطنية. نعم ففرصُ تحررنا الوطني مُتعلقة فقط بفداحة خسائرنا لا غير، وعليه فكلما ازدادت خسائرنا فداحةً ازددنا قُربا من التحرر. لذا وبحسب هذه الرواية أيضا، فإن الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة الآن قد جعلتنا، قاب قوسين أو أدنى من التحرر!
أخواتي وإخواني الفلسطينيين، لقد حَولت حماس هذه الخسائر المقياس الوحيد لنجاح النضال الفلسطيني ضد الاحتلال. بل وأجبرت الفلسطينيين على القبول بهذا التعريف وبالثمن الذي يفرضه دون أي تساؤلات أو تحفظات. فمن جهة حَولت حماس أجساد الفلسطينيين لأداة النضال الوحيدة التي تقودنا كفلسطينيين نحو التحرر الوطني. لكنها ومن جهة أخرى تَخلت عن هذا الجسد وتركته وحيدا بمواجهة الإبادة المُمَنهجة التي تشنها إسرائيل بلا هوادة عليه.
لم تتخلَ حماس عن الوجود الفلسطيني فقط لأنها جعلت المواطنين الفلسطينيين في غزة يتحملون مسؤولية المذبحة التي ارتكبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل أيضا تخلت عن الجسد الفلسطيني ووجوده، لأنها لم تُخطط يوما لحمايته، بل لاستخدامه فقط.
أخواتي وإخواني الفلسطينيين، إن رؤية المقاومة بصيغتها الحَمساوية خطيرة ليس فقط لأنها قادرة على قمع النقد الفلسطيني الداخلي، غسل الأدمغة، تمجيد وتخليد حوار الشهادة و"صناعة الشهداء"، بل أيضا لأنّ حماس قدمتها للفلسطينيين كأمر إلهي يُزعزع نقاشه شرعية مشروع التحرر الوطني بِرمته. استعانت حماس بحوار "الخسائر" لتحول الوجود الفلسطيني خارج حوار الكفاح المسلح، لوجود لا يطاق. كما أنها اعتبرت قتل وتدمير أجساد الفلسطينيين ضررا جانبيا لا بُد منه!
التاريخ والحرب في غزة
يرى المؤرخ الأمريكي الفلسطيني رشيد خالدي أنّ الصراع في الشرق الأوسط والحرب في غزة هما، من نواح عديدة، عاقبة من عواقب الاستعمار، ويؤكد أنّ "الحل لا يمكن التوصل إليه إلا عبر تفكيك هياكل السيادة والتمييز الراسخة"، وأنّ حل الدولتين لا يمكن تحقيقه إلا عبر هذا الطريق.
حماس بلا أفق سياسي
أخواتي وإخواني الفلسطينيين، يهدف خطاب "من حقنا أن نقاوم!" بصيغته الحَمساوية السطحية إلى تفادي وقمع كافة الأسئلة السياسية والاستراتيجية والقيمية والأخلاقية والإنسانية التي من واجبنا كفلسطينيين طرحها، خاصةًّ اليوم حيث تُمحى غزة عن بكرة أبيها. لكن يهدف هذا الخطاب بالأساس إلى عَرقلة سيرورات ذهنية توَعوية عميقة قد تقوض حماس كعقيدة، فكر وخيار سياسي.
يخدم خطاب "من حقنا أن نقاوم!" الحَمساوي بالأساس الحركة ويُكرسها في الوعي الفلسطيني كحركة تحرر تقود النضال ضد الاحتلال، ويمد في عمرها الافتراضي. لكنه يخدم إسرائيل حيث تستعمله من أجل الإدعاء بأن الرواية الفلسطينية السائدة تُمجد وتُسوق الموت.
أخواتي وإخواني الفلسطينيين، لقد حان الوقت للاعتراف بأن أفق حماس السياسي لا يتعدى تخليد وتعميق الخسائر الفلسطينية والاستفادة منها من أجل الاستمرار بالسيطرة على غزة. لقد حان الوقت لرفض نسخة مقاومة حماس الفاشلة. لقد حان الوقت لرفض التعريفات والتفسيرات والممارسات التي تعيد إنتاج رواية السابع من أكتوبر باعتبارها مقاومة تَحررية!
يتحتم علينا كفلسطينيين رفض حوار إنقاذ حماس، إعادة تأهيل قيادتها واستمرارها في حكم القطاع. بل ينبغي علينا قبل كل هذا التوقف والتمعن باللحظة التي تحولت فيها رواية السابع من أكتوبر إلى رواية مقاومة شرعية ولو جزئيًا في العالم العربي وبعض الأوساط الفلسطينية؟، ألا ينبغي علينا أن نتساءل ماذا حدث لنا و لروايتنا؟
أخواتي وإخوتي الفلسطينيين، نحن ملزمون كفلسطينيين باختراع نسخة مقاومة فلسطينية مغايرة، تتطابق مع روح التحرر الوطني التي نحلم بها. بل وعلينا خَلق معانِ جديدة لروح المقاومة الفلسطينية التي صادرتها حماس منا عُنوة. لن تُحررنا حماس ولا السلطة الفلسطينية، بل ولن تُحررنا الرواية الفلسطينية السائدة التي تقوم على التضحية الفلسطينية المطلقة. سَتحررنا رحلة مؤلمة نخلق من خلالها رواية فلسطينية بديلة لا مكان فيها للدم الإسرائيلي أو أي دم آخر.
© قنطرة