تداعيات كارثية وأعباء إضافية على فقراء مصر
"الدولار وصل كام؟" - سؤال بات يتردد صباح كل يوم على ذهن الشاب محمد الذي يعيش في منطقة إمبابة بالقاهرة فيما يستعد خلال شهرين لدخول قفص الزوجية.
وقال محمد، الذي يعمل مدرسا، "قبل ارتفاع الدولار بهذا الشكل، وضعت ميزانية تصل إلى 40 ألف جنيه (1340 دولار) لشراء الأثاث لكن التكلفة ارتفعت الآن إلى أكثر من 87 ألف جنيه (2915 دولار) حتى مع تقليل حجم وعدد قطع الأثاث"، يقول الشاب الذي طلب عدم الإفصاح عن اسمه الحقيقي. وأضاف لـ دويتشه فيله عربية، "كل شيء ارتفع ليس فقط الأثاث حتى تكلفة حفل الزفاف تضاعفت إلى أكثر من ثلاث أضعاف."
يعكس حديث محمد، البالغ من العمر 29 عاما، حالة الإزعاج والقلق التي أصبحت تسود كثير من المصريين خاصة من أبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة منذ الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه المصري.
وفقد الجنيه المصري أكثر من 13 بالمئة من قيمته وهوى إلى مستويات قياسية جديدة عند حوالي 32 جنيها مقابل الدولار الأربعاء (11 يناير / كانون الثاني 2023) مع انتقال البنك المركزي إلى نظام صرف أكثر مرونة بموجب شروط حزمة دعم مالي من صندوق النقد الدولي.
ومع فقدان الجنيه المصري نصف قيمته مقابل الدولار منذ آذار/مارس 2022، ارتفع معدل التضخم السنوي إلى أكثر من 20 بالمئة، وهو أعلى مستوى منذ خمس سنوات فيما زاد سعر السلع الغذائية بنسبة 37,9 في المئة، وفق الأرقام الرسمية.
لكن الانخفاض الكبير في يناير / كانون الثاني 2023 ضاعف من الأعباء المثقلة على كاهل المصريين خاصةً مع ارتفاع الأسعار بمعدلات غير مسبوقة.
شد الحزام
ولم تترك موجة الغلاء وارتفاع الأسعار للمحاسب أحمد حسن، الذي يعيش في منطقة شبرا بالقاهرة، خيارا سوى "تقليل النفقات" حتى يتمكن من تلبية احتياجات أسرته المؤلفة من ثلاث أطفال وزوجة تعمل ربة منزل.
وفي ذلك، قال حسن لـ دي دبليو عربية، "بدأنا الاقتصاد في كل شيء فعلى سبيل المثال بدل شراء 3 كيلو من الأرز أصبحنا نشتري على قدر الاستخدام اليومي.. كيلو أو نصف كيلو أرز وتوفقنا عن شراء أنواع مختلفة من الجبن إذ أصبحنا نشتري نوعا واحدا."
لكن المحاسب الذي يبلغ عامه الـ 40، يؤكد أن خيار ترشيد النفقات أو "الاقتصاد" على حد وصفه لا يمكن أن ينطبق على كل شيء، مضيفا "للأسف لا يمكن التوقف عن شراء كل شيء فهناك على سبيل المثال سلع ومواد غذائية ضرورية ليس لنا وإنما لأطفالنا".
ويبدو أن ترشيد الإنفاق الذي لجأ إليه حسن اضطرت إليه الحكومة المصرية التي فرضت إجراءات تقشف في جهات الموازنة العامة بما يشمل تأجيل تنفيذ أي مشروعات جديدة لم يتم البدء في تنفيذها و"لها مكون دولاري واضح" وترشيد سفر المسؤولين إلى الخارج إلا في حالات الضرورة القصوى وبعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، وفقا لما جاء في الجريدة الرسمية.
التحول إلى سعر صرف مرن
وقبل التحول إلى نظام مرن لسعر الصرف، كانت الحكومة تستخدم احتياطيات العملات الأجنبية للحفاظ على سعر الصرف فيما ترددت الحكومات المصرية المتعاقبة في الانتقال إلى سعر صرف مرن لتجنب القفزات الكبيرة في الأسعار بسبب الاعتماد الكبير على الاستيراد لتلبيه احتياجات البلاد الأساسية.
Foreign debt Egypt has to pay in the coming 5 years, in $ billion. pic.twitter.com/mGgsjN3zSD
— The Big Pharaoh (@TheBigPharaoh) January 23, 2023
وفي مقابلة مع دويتشه فيله عربية، قال الدكتور محمد باغة، أستاذ الإدارة واقتصاديات التمويل والاستثمار بجامعة قناة السويس، إن آلية التحول إلى سعر صرف مرن كشفت عن "القوة الحقيقية للجنيه".
أضاف "كلما زاد الطلب على العملة زاد سعرها وهذا ما نراه مع تحركات الجنيه أمام الدولار الأمريكي بموجب أن هناك طلبا على العملة الأجنبية فإنه يرتفع سعرها وبما أن معظم اقتصاد الدولة (المصرية) قائم على الاستيراد وبالتالي يرتفع الطلب على الدولار ما يعني أن سعر الصرف يكون في صالح العملة الأجنبية وفي هذه الحالة الدولار".
ويتفق في هذا الرأي تيموثي قلدس، زميل السياسات في "معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط" ومقره الولايات المتحدة.
وأضاف في مقابلة مع دي دبليو عربية أن القيمة السوقية للجنيه "كانت تشهد تدهورا على مدى سنوات حيث ساعد التضخم على تآكل قيمته الحقيقية. وعندما قال البنك المركزي المصري إن الجنيه يتم تعويمه بحرية منذ عام 2016، كنا نعلم منذ سنوات أن هذا لم يكن صحيحا".
وأضاف "أحد الأسباب الرئيسية لعدم فقدان الجنيه لقيمته على مدار التاريخ الحديث للبلاد هو أن السلطات قامت بحماية الجنيه".
مكافحة السوق السوداء
ويقول مسؤولون اقتصاديون إن تحرير سعر صرف الجنيه أيضا كان ضروريا من أجل مكافحة السوق السوداء.
وعن ذلك، قال باغة "الدولة كانت في حالة حرب مع السوق السوداء وبالتالي قامت بتحرير سعر الصرف ورفع السعر لمستويات قياسية حتى تضعف السوق السوداء. وقد وصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى 34 جنيه، لكن خلال الأيام الماضية وصل لقرابة 30 جنيه ما يعني هبوط حاد في السوق السوداء".
وكانت الحكومة المصرية قد وضعت خلال العام الماضي 2022 "قيودا على الوصول إلى الدولار" وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الطلب في السوق السوداء بالتزامن مع قيام كثيرين بتحويل مدخراتهم المالية إلى الدولار لتجنب أي خسائر مع انخفاض قيمة الجنيه.
وفي مقابلة مع وكالة رويترز، قالت وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد الأربعاء (18 يناير/ كانون الثاني 2023) إن مصر تشهد إقبالا جيدا من المستثمرين على شراء حصص في الشركات المملوكة للدولة، في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة عمليات الخصخصة الجزئية لجمع الأموال بعد انخفاض حاد في قيمة الجنيه.
ويعتقد باغة أن انخفاض سعر أي عملة قد يصب في صالح اقتصادها إذ قد ينجم عن ذلك "إقبالا على شراء الأصول وزيادة الصادرات وحركة السياحة"، لكنه شدد على أن هذا الأمر يجب أن مصحوبا بتدابير اقتصادية أخرى.
وأضاف "يتعين على الحكومة القيام بتوسعات اقتصادية في عملية الإنتاج والتصدير والتصنيع وتحقيق استفادة قصوى من الموارد التي تمتلكها لتعزيز التمكين الاقتصادي وفتح آفاق للاستثمار وتحسين قدرتها في الاعتماد على نفسها في الإنتاج والتصنيع وتعميق المنتج المحلي وتقليل فاتورة الاستيراد قدر الإمكان".
"خفة الدم" المصرية
ومنذ الانخفاض الأخير [يناير / كانون الثاني 2023] في قيمة الجنيه أمام الدولار، أصبح وسمان #الجنيه أو #الجنيه_المصري من بين أكثر الأوسمة انتشارا على منصات التواصل الاجتماعي في البلاد فيما انتقد كثيرون تعامل الحكومة مع الأزمة الاقتصادية.
وامتلأت منصات التواصل الاجتماعي بشكاوى المواطنين من الغلاء مع تراجع قيمة الجنيه وما نجم عن ذلك من ارتفاع تكاليف المعيشة.
ولم يغب الطابع الساخر أو ما يُطلق عليه "خفة دم المصريين" عن تعليقات رواد التواصل الاجتماعي.
تخفيف العبء على المواطن
ومع توقعات بمضي الحكومة المصرية قدما في إصلاحات اقتصادية مؤلمة، أصبح المحاسب أحمد حسن في حيره حيال ما يحمله مقبل الأيام وتأثير هذه الإصلاحات على أسرته.
وقال "لا يمكننا تدبير أو ادخار أي أموال لأن كل الفلوس تذهب على مصروف المنزل مثل الأكل والشرب والسكن ودفع فواتير الكهرباء والمياه وغيرها. أحاول جاهدا الحفاظ على مستوى معيشي جيد لأطفالي بقدر الإمكان لكن الحفاظ على مستوى معيشي جيد يتطلب إنفاقا أكثر".
وفقاً لتقديرات البنك الدولي فإن ثلث سكان مصر البالغ عددهم 104 ملايين يعيشون تحت خط الفقر بينما ثلث آخر "معرّضون لأن يصبحوا فقراء".
وأفادت دراسة نشرت عام 2020 بأن متوسط الأجور في مصر يبلغ 69 ألف جنيه سنويا (2300 دولار) في معدل أعلى قليلا من خط الفقر الذي حدده البنك الدولي والذي يصل إلى 3,8 دولار يوميا.
بدوره، يرى زميل السياسات فى "معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط"، تيموثي قلدس، إنه يتعين على الحكومة المصرية دعم الفئات المتوسطة والفقيرة من خلال "توسيع برنامج التحويلات النقدية (تكافل وكرامة) في أسرع وقت ممكن".
وتشرف الحكومة على برنامج "تكافل وكرامة" الذي يقدم دعما نقديا شهريا للأسر الأشد فقرا إلى جانب الدعم الموجه للمواطنين عبر بطاقات التموين فيما يستلزم برنامج صندوق النقد المصري قيام الحكومة المصرية بتعزيز الإنفاق الاجتماعي لحماية الفئات الأكثر ضعفا.
وأشار قلدس إلى أن توسيع الوصول إلى الأغذية المدعومة يعد أمرا بالغ الأهمية، مضيفا "بدأت الحكومة في القيام بذلك حتى أنها أعلنت أن العائلات التي ليس لديها بطاقات دعم ستتمكن من شراء خبز مخفض ما يعكس إدراكها أن معظم السكان يكافحون لإطعام أسرهم".
وشدد على أن "انعدام الأمن الغذائي على نطاق كبير يعد مشكلة رئيسية من منظور إنساني واقتصادي وسياسي، لذا من مصلحة الجميع القيام بكل ما هو ممكن للسيطرة على الموقف بسرعة."
محمد فرحان – القاهرة
حقوق النشر: دويتشه فيله 2023