عزم أهل أنطاكية على العودة وقهر دمار الزلزال
يقول الطبيب النفسي البروفيسور سلجوق جاندانسايار، الذي قضى بعض الوقت في أنطاكيا المدمّرة في نيسان/أبريل 2023: "إنّ عبارات مثل ‘كانت مدينة جميلة للغاية، أشعر بالندم لعدم رؤيتها قبل الزلزال‘ هي أكثر العبارات التي تُزعِج وتُغضِب سكان أنطاكية".
وهو، مثل الكثيرين ممن كانوا هناك، معجب للغاية بأنطاكية، إذ قضى بعض الوقت فيها قبل أن تضرب الزلازل شمال سوريا وجنوب تركيا في 6 شباط/فبراير 2023، لتُسفر عن مقتل ما يزيد عن 50 ألف شخص. ويشترك جاندانسايار في الاعتقاد السائد بأنّ أنطاكية، بشعبها وتاريخها وتراثها الغني، ستنهض مجدّداً.
وكل من زار أنطاكية قبل الزلازل سيشعر بوجود صلة خاصة مع المدينة بعد السير في شوارعها الحيوية والمُبهِجة. وهذه البهجة هي جزء من تراث المدينة، كما توضّح إحدى لوحات الفسيفساء التي تشتهر بها أنطاكية والتي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتُظهِرُ هيكلاً عظمياً يحمل مشروباً ونُقِش عليها باللغة اليونانية القديمة: "كن مبتهجاً واستمتع بالحياة". اكتُشِفت لوحة الفسيفساء هذه في المدينة في عام 2012 أثناء أعمال البناء.
مدينة بتاريخ طويل وغني ومتنوع
بُنِيت أنطاكية حوالي 300 قبل الميلاد وتقع في جنوب شرق تركيا. وتُعرف بأنها "ملتقى/مدينة الحضارات"، كما أنها تشتهر بمطبخها الفريد والمتنوع للغاية، ولطالما شكّلت موطناً لأشخاص ينتمون لمجموعة واسعة من الأديان ووجهة للحجاج والسياح المعاصرين.
كما أنّ المدينة هي موطن لجوقة الحضارات، والتي ينتمي أعضاؤها إلى الطوائف السنية والعلوية والكاثوليكية والأرثوذكسية والأرمينية واليهودية. وتغني الجوقة بـ 12 لغة مختلفة، بما فيها التركية والعربية والآرامية والعبرية والأرمينية والكردية واليونانية. وللأسف، فقدت 7 من أعضائها في الزلازل التي ضربت المنطقة في شباط/فبراير 2023.
حلّ حزن عميق مكان بهجة الحياة في أنطاكية ما قبل الزلزال. تُقارِن تغريدة كتبها أحد السكان، "سيرجان"، المدينة الآن بما كانت عليه قبل الكارثة. ويجمع الفيديو في التغريدة بين لقطتين: تُظهِرُ اللقطة الأولى عازف الشارع المحلي، جام ديميرال، يعزف على غيتاره في وسط الدمار الذي سبّبه الزلزال، بينما تُظهِرُ اللقطة الأخرى أشخاصاً يرقصون، ولكن قبل الكارثة. وقد صُوِّر مقطعا الفيديو في المكان ذاته. تقول تغريدة سيرجان: "كنا نعيش بسعادة كبيرة في أنطاكيا؛ الذين فقدناهم كانوا مشرقين ومفعمين بالحياة ... أتساءل، كم عدد الناس في الأشخاص في العالم الذين دفنوا مدينتهم؟".
على الرغم من الحزن العميق الذي يشعرُ به سكان المدينة، فإنه من المستحيل عدم ملاحظة صمودهم ورغبتهم القوية في التعافي. بعد الزلازل مباشرة، أنشأ السكان المحليون العديد من منظمات المجتمع المدني والمبادرات لإعادة بناء مدينتهم المحبوبة، مع كل المعالم والمواقع التي تشغلُ مكانةً هامةً في ذاكرتهم الجماعية.
طوال تاريخها، نجت أنطاكيا من العديد من الزلازل المدمِّرة. لكن، وكما يذكر كل من سكان المدينة والمعجبين بها، فقد تمكنت دائماً من النهوض من جديد. وهؤلاء متفائلون فيما يتعلق بمستقبل المدينة.
الإزالة السريعة للأنقاض تعرّض التراث والذكريات للخطر
يدرك الناس أنّ إعادة بناء المدينة ليس بالأمر السهل، ولا سيما نتيجة للخطط غير المدروسة والمتسرّعة للحكومة، التي لم تستشِر السكان المحليين. فقد وعدت الحكومة، الخائضة في انتخابات رئاسية وبرلمانية في 14 أيار/مايو 2023، بإعادة إعمار المدينة خلال عام واحد.
وردّت أكثر من 20 منظمة مدنية في أنطاكية على خطط الحكومة بإصدار بيان يشير إلى أنّ مثل هذه السرعة بإزالة الأنقاض ستلحق الضرر بالتراث الثقافي للمدينة. يطالب السكان المحليون بأن تُزال الأنقاض بإشراف خبراء ويؤكدّون أنّه من الممكن إعادة استخدام مواد البناء التاريخية وذات القيمة، مثل الجدران الأصلية والأبواب التاريخية والحجرية. وللفت الانتباه إلى هذه القضية، شكّل سكان أنطاكية مؤخراً سلسلة بشرية تحمل لافتة كُتِب عليها: "إنه تراث، وليس أنقاض".
مجتمع فريد متعدّد الأديان
تراث أنطاكية فريد حقاً. فهي أكبر مدينة في ولاية هاتاي، وشعارها عبارة عن هلال ونجمة داوود وصليب نظراً للقرب بين المساجد والكنائس التاريخية وكنيس يهودي في المنطقة، والتي انهارت جميعها خلال الزلازل.
دُمِّرت قبة ومئذنة وجدران مسجد حبيب النجار، والذي يُعتبر واحدا من أقدم المساجد في الأناضول. والمسجد يضمّ قبوراً يُعتَقدُ أنّها تعود للمُرْسَلَيْن يوحنا وبولص، اللذين أتيا إلى أنطاكية لنشر تعاليم يسوع. يقول العهد الجديد أنّ أنطاكية أول مكان أطلِق فيه على أنصار السيد المسيح اسم المسيحيين. دُمِّرت كل من كنيسة القديسين بطرس وبولس اليونانية الأرثوذكسية وكنيسة أنطاكية البروتستانتية، والتي بُنيت في عشرينيات القرن الماضي واستُخدِمت كسفارة فرنسية قبل تحويلها إلى كنيسة، ولم يعد بالإمكان استخدامهما بعد الآن.
بصرف النظر عن هذه المباني الدينية، أصبح أول شارع مضاء في العالم، شارع كورتولوش، والمناطق المحيطة به في حالة خراب. كما تعرّض لأضرار بالغة مقهى أفّان الشهير في شارع كورتولوش، وهو أحد رموز المدينة ومترسّخ بعمق في ذكريات كل من السكان المحليين والزوار على حدّ سواء. واختفى كذلك السوق الطويل التاريخي، الواقع بين شارع كورتولوش ونهر العاصي.
يريد سكان أنطاكية استعادة كل هذه المباني والهياكل، بيد أنّهم قلقون من أنّ الاندفاع لإعادة بناء المدينة قد يهدّد مجتمعاتها وطابعها الفريد. وأكثر ما يقلقهم المرسوم الرئاسي الصادر في 5 نيسان/أبريل 2023 الذي جعل من شارع كورتولوش والمناطق المحيطة به خاضعين لقانون يُنظر إليه على أنه قانون استطباق.
قالت مخططة المدن، فيلدان كايا، المطّلعة على حالات نُفِّذ فيها هذا القانون، لموقع قنطرة إنّه حتى الآن، لم يساعد هذا القانون في الحفاظ على التراث الثقافي في أي مكان في تركيا.
قالت: "في إسطنبول بالتحديد، أضرَّ تطبيق قانون الاستطباق هذا بالمدينة. شُيِّدت المباني الجديدة والشاهقة والمكلفة التي تفتقر إلى الروح. كما تم تجاهل التفاعل الاجتماعي والثقافي. هذا ليس تخطيط مدن. أجبِر السكّان السابقون لهذه المناطق على مغادرة منازلهم وحياتهم".
"سنعود"
ولنقابة المحامين في المدينة الرأي ذاته، كما عرضت المرسوم الرئاسي على مجلس الدولة في 28 من نيسان/أبريل 2023، مشيرة إلى أنّ حقوق الملكية للسكان السابقين مهدّدة وأنّ أنطاكية معرّضة لخطر التجريد من تراثها الثقافي.
وقال إيمره جان داغلي أوغلو، المحرّر في منصة (Nehna) -التي تساهم في نشر الوعي حول الهوية الأرثوذوكسية في أنطاكيا- إنّ ما يجعل أنطاكية جميلة هو نسيجها الاجتماعي المميز، وتماسكها الاجتماعي وسكانها المتنوعين. قال لموقع قنطرة: "لنواجه الواقع، لقد تقلصت المجتمعات اليهودية والمسيحية بالفعل. ينبغي أن نجد طريقة لإعادة جميع هذه المجتمعات إلى المدينة، وإلا فإنّ إعادة بناء أنطاكية يمكن أن تقتصر على مبانيها التاريخية فحسب. ينبغي علينا أيضاً حماية التركيبة الديموغرافية".
سكان أنطاكية مصمّمون على إعادة بناء مدينتهم وعلى العودة إليها. يقول أهالي أنطاكيا، تماماً مثل الكلمة التي كُتِبت على العديد من الجدران في جميع أنحاء المدينة، "سنعود".
عائشة كارابات
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرات 2023