تركيا بين زلزالين...زلزال أرضي وآخر سياسي
يمكن الآن ملاحظة انخفاض قيمة الليرة التركية بشكل يومي في مكاتب الصرافة في شارع الاستقلال. وكذلك لا يزال الجميع يتحدَّثون حول الزلزال المدمِّر الذي ضرب منطقة جنوب تركيا شرق الأناضول. ولكن نظر الأتراك موجَّه إلى الرابع عشر من أيَّار/مايو 2023، أي موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية. وجميع مَنْ نتحدَّث إليهم تقريبًا يأملون في تغيير الحكومة. وسواء جاء هذا التغيير أم لا فسيكون هذا الزلزال السياسي كبيرًا.
ولكن إذا أخذنا مهرجان إسطنبول السينمائي الثاني والأربعين كمقياس، والذي انتهى في الثاني عشر من نيسان/أبريل 2023، وذلك في منتصف شهر رمضان، فنلاحظ أنَّ جميع هذه الأحدات الصعبة لم تُضعف لا متعة الناس في السينما ولا الدافع الإبداعي لدى المصوِّرين السينمائيين، بل يبدو أنَّ الوضع مختلف: فقد وفَّرت هذه الظروفُ الصعبة الخلفيةَ المناسبة للعديد من الأفلام وزادت من حدة رسالة هذه الأفلام. وقد استفادت من ذلك قبل كلِّ شيء المساهماتُ المهمة بالنسبة لكلّ من أوروبا وآسيا.
خمسون فيلمًا ألمانيًا؟
لقد تم عرض خمسين فيلمًا ألمانيًا في المهرجان، كما ادَّعت ممثلة عن "أفلام ألمانيا" في حفل الإفطار الذي أقامه معهد غوته يوم سبت خلال المهرجان، ولكن ادِّعاءها هذا كان مخادعًا، وذلك لأنَّ وجود خمسين فيلمًا بمشاركة ألمانية لا يعني أبدًا خمسين فيلمًا ألمانيًا. وقد كانت بعض أفضل المساهمات بشكل عام من إنتاجات ألمانية-تركية وألمانية-كردية وألمانية-إيرانية، بينما كانت الأفلام الألمانية "البحتة" تبدو من نسج الخيال أمام المشهد السينمائي الإسطنبولي الصعب.
وخير مثال على ابتعاد المساهمات الألمانية عن العالم قصص حول مشاكل الكتَّاب في ألمانيا مع شركائهم المضطربين نفسيًا: مثل ماكس فريش (قام بدوره الممثِّل الألماني رونالد تسِرفِلد) وإِنغِبورغ باخمان (قامت بدورها الممثلة الألمانية فيكي كريبس) في فيلم "رحلة إلى الصحراء" للمخرجة الألمانية مارغريته فون تروتا، والذي يدور حول سيرة إِنغِبورغ باخمان الذاتية.
أو المؤلف الناشئ ليون الذي يتجادل مع مخطوطاته (قام بدوره الممثِّل النمساوي توماس شوبرت) والطالبة التي تدرس فقه اللغة الألمانية وتعاني من فقدان الشهية واسمها ناديا وقد أدَّت دورها الممثِّلة الألمانية باولا بير في فيلم "سماء حمراء" للمخرج الألماني كريستيان بيتسولد.
يبدو الفيلم الألماني عند النظر إليه من إسطنبول كأنَّه قد توقَّف في "الذاتية الجديدة" الخاصة بفترة الثمانينيات. ولكنه فشل فشلاً ذريعًا في مواجهة الواقع العالمي الجديد.
ويا له من تناقض مع الأفلام "الألمانية" التي لم تقف وراءها في الواقع عقولٌ ألمانية بحتةٌ في المقام الأوَّل! فقد تمكَّن المخرج التركي-الألماني فاتح أكين في فيلمه "راينغولد" من الموازنة بين الترفيه السائد المناسب للتلفزيون وبين تصوير حياة المهاجرين بطريقة أصيلة بما فيه الكافية. وهذا الفيلم هو رواية سينمائية لحياة مغني الراب الكردي الألماني غوار حجابي (المعروف أيضًا باسم "إكساتار").
وكان الإنتاجان التركيان-الألمانيان البارزان الآخران في هذا المهرجان أكثر صرامةً من الناحية الجمالية والفنية: فيلم "أرارات" للمخرج إنغين كونداغ وفيلم "في الزاوية الميتة" للمخرجة عائشة بولات التي تعيش حاليًا في برلين.
في مجتمع الرقابة
وفيلم "في الزاوية الميتة" الحائز في مهرجان إسطنبول على جائزة أفضل فيلم تركي هو دراما سياسية مقنَّعة على شكل فيلم مثير: تأمُّلٌ في صدمة متوارثة وبارانويا مجتمع الرقابة والعنف السياسي. تجري أحداث هذا الفيلم في بلدة كارْس ذات الطابع الكردي في شمال شرق تركيا وتدور حول أسرة عميل قومي تركي يخضع هو نفسه للمراقبة والتهديد أثناء مراقبة طاقم تصوير ألماني.
وقد أدَّت أحد الأدوار الرئيسية الطفلةُ شاغلا يورغا التي يبلغ عمرها سبعة أعوام فقط وكان لها حضور ساحر في دور ميليك، ابنة العميل. ويبدو أن "ميليك" (التي يعني اسمها "ملاكًا") مسكونة بالرؤى. وهي تتصرَّف في الحقيقة بجنون العظمة الناجم عن الملاحقة والرقابة والذي يكبته جميع الآخرين.
من النادر جدًا مشاهدة طفل يؤدِّي مثل هذا الأداء المُقنِع في فيلم سياسي حديث. القمع الذي ينعكس في النهاية حتمًا على الظالمين أنفسهم، يتم تمثيله بمهارة ولكن بشكل صارخ في هذه الأمثولة السياسية المعقَّدة. وتعكس في الوقت نفسه السينما هنا العنف الذي يمكن أن يخرج من عين الكاميرا، مما يضع وسَطها الخاص موضع تساؤل. ومن المدهش أنَّ هذا الفيلم المموَّل جزئيًا من قِبَل قناة آرته ARTE الألمانية الفرنسية قد تم عرضه في إسطنبول من دون مشكلات. ولا يسعنا إلَّا أن نأمل في أن يصل هذا الفيلم إلى شاشات العرض الألمانية أيضًا.
قلب موازين القوة
يعمل فيلم "أرارات" للمخرج إنغين كونداغ بشكل مختلف تمامًا، ولكنه ليس أقل قوة. زينب (قامت بدورها الممثِّلة مروة أكسوي) طالبة تدرس في ألمانيا وقد استثمر والداها في مقلع حجارة يقع في جبل أرارات في شرق تركيا.
هربت زينب بعد تسببها بحادث سيارة في برلين إلى والديها مليئةً بالعدوان، وشرَّحَت زواجهما المحطم وقامت بقلب موازين القوة الأبوية الذكورية التقليدية: فبدلاً من اضطرارها إلى تحمُّل محاضرات والدها التأديبة، صارت ترد - بمعنى الكلمة. وتواجه زميل والدها الذي تربطه علاقة بوالدتها ولا تخجل أيضًا من إذلاله جنسيًا.
الاسم التركي لجبل أرارات هو "آغري" (Ağrı) - وهذه الكلمة التركية لا تعني سوى الألم. يرمز هذا البركان الخامد الذي يحمل الاسم الدلالي نفسه ويرتفع من أرض قاحلة إلى الألم والغضب الذي يمكن أن ينشأ من دون سابق إنذار عن تشتُّت العديد من خطط الحياة التركية-الألمانية. ويتم في هذا الفيلم تصوير ذلك في لقطات طويلة مؤلمة تقريبًا من كاميرا ثابتة. لا يوجد في هذه اللقطات الكثير من الكلام ولا يحدث فيها الكثير أيضًا. ولكن هذه الأحداث القليلة لها تأثير شديد يبقى لدى المشاهدين لفترة طويلة.
أفلام ألمانية-إيرانية
لم تُعرَض في هذا المهرجان السياسي المثير للإعجاب أفلامٌ ألمانية-تركية فقط بل وعرضت فيه أفلامٌ ألمانية-إيرانية أيضًا. يعيد الفيلم الوثائقي "سبعة شتاءات في طهران" للمخرجة الألمانية شتيفي نيدَرتسول سرد مصير ريحانة جباري: لقد كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما طعنت الرجل الذي استدرجها إلى شقَّته بحجج كاذبة وحاول اغتصابها.
يجب في إيران أن يوافق أهل الضحية على تنفيذ عقوبة الإعدام التي حُكمت بها ريحانة جباري، ولكن بإمكانهم أيضًا إلغاؤها. وبعد سبع سنين مؤلمة من مفاوضات غير مجدية بين العائلات، تم إعدام ريحانة جباري في الخامس والعشرين من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2014.
لقد تمكَّنت المخرجة شتيفي نيدَرتسول -باستخدامها مقاطع فيديو للعائلة مصوَّرة سرًا بالهاتف المحمول، وكذلك بواسطة حوارات وكواليس أُعيد بناؤها- من إبراز هذا الجانب الوحشي في الواقع الإيراني، والذي من الصعب تصويره عمليًا في إيران.
وبما أنَّها لم تكن قادرة على السفر إلى إيران فقد كان لا بد لها من الاعتماد على التعاون مع أصدقاء وناشطين في إيران وغيرهم من الإيرانيين المقيمين في المنفى. وهكذا فقد نشأ بشكل سري هذا العمل المشترك من إنتاج ألماني-إيراني مُتحرِّك، إذا جاز التعبير، على الرغم من عدم إمكانية ذكر أسماء المشاركين والداعمين الإيرانيين لأسباب أمنية.
فيلم إيراني حول الهولوكوست
أمَّا الفيلم الإيراني الثاني الذي أثار ضجة كبيرة في المهرجان فعلى الرغم من أنَّه إنتاج إيراني بحت ولكن له علاقة عميقة بالتاريخ الألماني. حصل فيلم المخرج الإيراني هومان سيدي "الحرب العالمية الثالثة" على جائزة أفضل فيلم دولي في مهرجان إسطنبول وهو في البداية دراما اجتماعية. والشخصية الرئيسية فيه عاملُ مياومة (باليومية) اسمه شكيب (قام بدوره الممثِّل الإيراني محسن تنابنده) ويتم استخدامه من أجل المساعدة في بناء مكان تصوير أفلام، وتحديدًا بناء كواليس لفيلم حول الهولوكوست.
وعندما يموت فجأة الممثِّل الذي يقوم بدور هتلر، يُطلب من شكيب أن يؤدِّي هو دور الديكتاتور. يعارض في البداية، ولكنه لا يستطيع مقاومة ضغط طاقم الفيلم. وبعدما يقوم بإخفاء صديقته العاهرة لادان الصماء البكماء -(قامت بدورها الممثِّلة الإيرانية ماهسا حجاسي) في داخل منزل كواليس الفيلم، والذي يعيش فيه أثناء التصوير- تشتعل النيران في هذا المنزل، تمامًا كما هو محدَّد في سيناريو الفيلم.
وتحترق لادان حتى الموت، ولكن لا أحد يريد تصديق شكيب والاعتراف بموتها، ناهيك عن تحمُّل المسؤولية عن ذلك. وفي يأسه هذا، يؤدِّي ممثِّلُ دورِ هتلر المتردِّد دورَه هذا حرفيًا ويضع العدالة في يده وتكون النتيجة مذابح وقتلًا جماعيًا.
أمثولة ترمز لحالة العالم
تحدث هذه الحبكة مع حتمية مأساة يونانية وتبدو في الوقت نفسه كنتيجة حتمية لمجتمع محطم. الفاشية لا تعود تحت عباءة الإسلام، بل تنشأ من حالات عدم المساواة الاقتصادية الصارخة والقيود السياسية وتوازن القوى الاجتماعية.
وهذا الفيلم هو أمثولة عظيمة لا ترمز فقط لإيران، بل ترمز لحالة عالمنا برمَّته. يندمج الظاهر والحقيقة وكذلك الخيال والواقع ببعضهما بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وفي النهاية لا يعود هناك أحد يمكنه تحمُّل المسؤولية عن ذلك.
لقد حقَّق المهرجان نجاحًا كبيرًا لدى الجمهور. فقد تم بيع الغالبية العظمى من تذاكر عروض الأفلام. وبينما غالبًا ما يتعلق الأمر في مهرجانات هوليوود وكان وبرلين السينمائية بالفتنة والجاذبية، كانت الأفلام المعروضة في إسطنبول تتعلق بكلِّ شيء. هنا في إسطنبول لا يمكن أن تكون المظاهر جميلة لدرجة أنَّها قد تطغى على الواقع. وبدلًا من أن تكون السينما آلة وهم وخيال أصبحت هنا في إسطنبول أداة لكشف الستار عن الواقع.
وطالما أنَّنا بتنا نشاهد الآن الأفلام نفسها في العديد من المهرجانات فمن المفيد مشاهدتها بشكل خاص في إسطنبول، لأنَّ الأفلام إذا كان يتم عرضها فقط في المهرجانات الأخرى فيجب عليها أن تجتاز هنا في إسطنبول اختبار الواقع. وهنا فقط تُظهِر الأفلام ما يمكنها فعله - أو ربَّما ما لا يمكنها فعله.
تقاطع مع الواقع
وفي نهاية إفطار يوم السبت في معهد غوته، الذي دار الحديث خلاله حول وجود خمسين فيلمًا ألمانيًا، استطعنا مشاهدة مظاهرة صغيرة في شارع التسوُّق الشهير شارع الاستقلال الذي يقع على مرمى حجر من معهد غوته. لقد كانت هذه مظاهرة "أمهات السبت" اللواتي يتظاهرن كلَّ أسبوع للتذكير بأبنائهن الذين تم اختطافهم من قِبَل الدولة واختفوا، وقد شكَّلن أيضًا مصدر إلهام لفيلم عائشة بولات.
ومن أجل منع أيٍ من المارة من التفكير في الانضمام إلى الأمهات فقد تم تطويقهن بطوق من رجال الشرطة المدجَّجين بالسلاح وعزلهن عن الناس في منطقة المشاة. وشكَّل في داخل هذا الطوق سبعةٌ من رجال الشرطة دائرة ثانية أضيق بكثير حول متظاهر واحد فقط يكاد لا يمكن رؤيته. وكان هذا المتظاهر هو موسى بيرأوغلو مُقيَّدًا على كرسيِّه المتحرِّك، وهو نائب في البرلمان التركي عن حزب الشعوب الديمقراطي المقرَّب من الأكراد.
وقد بدا فجأةً وكأنَّ ما تم عرضه خلال المساء السابق في الأفلام استمر هنا في الشوارع. ففي إسطنبول يدخل الخيال والواقع في حوار مليء بالتوتُّرات والمفاجآت والإدراك. وهذا ما جعل مهرجان إسطنبول السينمائي في دورته الثانية والأربعين هذه قويًا وفريدًا.
شتيفان فايدنَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023