"المُساءلة أهم من العقاب"

أستاذ بامية، عندما يتحدث الناس عن مستقبل سوريا، غالباً ما يؤكدون على أهمية "العدالة الانتقالية" الآن. ماذا يقصدون بذلك؟
إن الفكرة الأساسية وراء العدالة الانتقالية هي أنه بعد فترة من الصراع، يحاول المجتمع تطوير رواية مشتركة حول ما حدث. وهذا لا يتعلق بالضرورة بالعقاب، حتى وإن كان ذلك يمكن أن يكون جزءًا من العدالة الانتقالية. فالمساءلة والحقيقة والمسؤولية أكثر أهمية. ومن شأن ذلك، أن يساعد مجتمعات ما بعد النزاع على تحقيق قدر أكبر من الاستقرار.
جرى تطوير هذا المفهوم بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبرغ في ألمانيا. ما الأخطاء التي ارتكبت في ذلك الوقت وما الذي يمكن أن نتعلمه منها اليوم؟
كانت محاكمات نورمبرغ إشكالية، حيث طبّق المنتصر العدالة على المهزوم، ويمكن تبرير ذلك في بعض الحالات. ولكن لنأخذ مثال اليابان؛ إذ عقدت الولايات المتحدة الأمريكية محاكمات لجرائم الحرب اليابانية، ولكن لم يتحدث أحد عن حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية ألقت قنبلتين ذريتين على السكان المدنيين. بسبب هذا النوع من العدالة الانتقائية، ابتعدنا كدارسيين ومتخصصين عن نموذج عدالة المنتصر وحاولنا تطوير نهج أكثر حيادية.
في سوريا، تركّز الرواية السائدة حتى الآن على جرائم الأسد وتجاهلت أفعال الجهات الفاعلة الأخرى. مرة أخرى نرى نموذج المنتصرين والمهزومين.
بالضبط، في مارس/أذار 2025، اُرتكبت مجزرة بحق العلويين في الساحل السوري، وجرى تشكيل لجنة تحقيق قدمت تقريرها في يوليو/تموز. ومع ذلك، لم تنشر اللجنة قائمة الجناة المشتبه بهم، بل اكتفت بتسليمها للرئيس الشرع. فمن الواضح أن الجماعات المتحالفة مع الحكومة ارتكبت جرائم أيضا، وتعتمد محاسبتهم من عدمها على مدى قوة المجتمع المدني السوري.
يمكن أن تأتي العدالة الانتقالية من المجتمع المدني - من الناجين وأقاربهم والنشطاء. في الحروب الأهلية التي طال أمدها، تُرتكب الجرائم من قبل جميع الأطراف، لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يمكن تبرير شكل من أشكال العنف أكثر من غيره

في مايو/أيار، أعلنت الحكومة الجديدة إنشاء هيئتين للعدالة الانتقالية. هل هذه فرصة حقيقية للحوار أم مجرد بادرة رمزية؟
المبادرة جيدة، ولكن لا نعرف بعد ما إن كانت ستنجح، إذ تحتاج إلى شهود ووثائق ونظام قضائي موثوق. في تونس، كانت هناك عملية عدالة انتقالية بعد ثورة 2011، والتي قال الرئيس المنصف المرزوقي فيما بعد إنها فشلت. لم تتم محاسبة أحد أو الاعتذار بشكل واضح. كان النظام القديم لا يزال حاضرًا بقوة في أجهزة الدولة. لذا، وبطريقة ما، فشلت الثورة أيضاً لأن النظام القديم لم تتم إزالته بالكامل.
بلد عربي آخر ينطبق عليه ذلك هو لبنان. فبعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على الحرب الأهلية هناك، لا يوجد نصب تذكاري وطني ولا عملية رسمية لتقصي الحقائق. ما الذي يمكن أن تتعلمه سوريا من هذا؟
لبنان مثال جيد لما يحدث عنداتباع سياسة الصمت. فبعد 15 عامًا من الحرب الأهلية، لم يُعاقب أحد في لبنان، حتى أن العديد من مجرمي الحرب ظهروا في الحكومة. كانت الفكرة هي: المسلحون فقط هم من يستطيعون الحفاظ على السلام. لهذا السبب لا نعاقبهم.
في لبنان، لا يوجد حتى الآن فهم مشترك للتاريخ، فالمنهج الدراسي ينتهي بإعلان الاستقلال عام 1943، وهو نظام قائم على فقدان الذاكرة. لكن الحياة اليومية مستمرة، إذ تُعقد الزيجات وتُعقد الصفقات التجارية عبر الخطوط الفاصلة بين الطوائف، وتجري عملية المصالحة الاجتماعية من الأسفل. ولكن من الناحية السياسية، لا يزال اللاعبون الرئيسيون في الحرب الأهلية يهيمنون على النظام.
ربما يجب أن يموت جيل كامل قبل أن يظهر توافق جديد في الآراء. وحتى ذلك الحين، سيظل السلام هشًا - سلام بارد. مثال آخر على ذلك هو أيرلندا الشمالية، فقد تمت تسوية النزاع هناك رسميًا، ولكن لا توجد مساءلة حقيقية، ولا يزال الانقسام بين الطائفتين قائما حتى يومنا هذا.
تنتقل الضغائن القديمة إلى الجيل الجديد.
بالضبط. إذا لم يكن لدى الناس رواية مشتركة، فإن الضغائن تستمر. كما يمكن أن يكون السلام بين الدول سلامًا باردًا. لقد أبرمت مصر والأردن اتفاقيات سلام مع إسرائيل، لكن هذا السلام يقتصر على مستوى الحكومات. ولا تزال الشعوب معادية لبعضها البعض.
في ألمانيا، برزت رواية مشتركة مع مرور الوقت بعد الحرب العالمية الثانية - فقد أدان الجميع الفاشية. وهذا ما جعل المصالحة ممكنة. ليس هذا هو الحال بين إسرائيل وفلسطين، أو بين إسرائيل ومصر، وما إلى ذلك. يقول لي الإسرائيليون في حديثهم: "نحن نتمسك بروايتنا، وهم يتمسكون بروايتهم". لا أعتقد أن هذا يمكن أن ينجح، ولهذا السبب أنا متشائم بشأن هذا الصراع في الوقت الراهن. في سوريا، علينا أن نراقب كيف تتطور الأمور.

"سوريا بحاجة إلى ثقافة العدالة"
أمضت المخرجة مونيكا بورجمان سنوات طويلة في توثيق أنظمة السجون في لبنان وسوريا. تتحدث بورجمان، في هذه المقابلة، عن مستقبل سوريا، ونضالها من أجل العدالة بعد اغتيال زوجها ورفيق دربها، الناشط اللبناني لقمان سليم.
هل لديك انطباع حالياً بأن المجتمع المدني هناك منخرط فعلاً في العملية الانتقالية؟
حسب معلوماتي فإن الناس في دمشق يشعرون الآن أن بإمكانهم التحدث بحرية، وهذا أمر جديد. فخلال خمسين عاماً، لم يكن مسموحاً للناس أن يفتحوا أفواههم. كما أن المجتمع المدني ينمو - غالباً بمساعدة السوريين في الشتات. فالسوريون في برلين، على سبيل المثال، يجمعون المواد، ويتولون مهام تنظيمية، بل ويعودون إلى سوريا للتحدث إلى الرئيس الجديد.
ما هو الدور الذي تلعبه الجماعات الدينية والأقليات؟
عندما جرى تنفيذ هجوم بالقنابل على كنيسة مسيحية في يونيو/حزيران، أدانت الحكومة علنًا الهجوم وبدأت على الفور تحقيقًا، وهذا بالطبع يصب في مصلحتها الخاصة. وفي شهر يوليو/تموز، بعد القتال في السويداء، تحدث الشرع علنًا أيضًا عن أن جميع السوريين متساوون في الحقوق. ويجب عليه أن يثبت أنه على استعداد لحماية الأقليات، وإلا ستفقد حكومته الدعم الدولي والدعم في الداخل.
وهذا هو السبب في أن العنف بين الجماعات الدرزية والسنية في السويداء خطير للغاية: فقد يؤدي ذلك إلى مزيد من الانقسام في البلاد على أسس عرقية وطائفية. لا سيما وأن القوات الحكومية أو على الأقل الجماعات المتحالفة معها متورطة أيضًا في مذابح المدنيين الدروز. وهناك عامل تصعيد خطير آخر وهو تدخل إسرائيل في هذا الصراع، حيث تؤيد حكومتها الحالية تقسيم سوريا.
يختبئ بشار الأسد في روسيا، كيف يمكن للمجتمع أن يتعافى طالما لم تتم محاسبته؟
قد يكون الأسد الآن غير ذي صلة، ويمكن محاكمة شخص ما غيابياً. سيكون ذلك أقصى ما يمكن تحقيقه من حيث القانون والعدالة في إطار النظام الدولي القائم. فقد أفلت العديد من النازيين، على سبيل المثال، من العدالة. ومع ذلك، يمكن أن تنجح إعادة بناء المجتمع إذا شعر الناس بأن النظام عادل في النهاية.

سوريون عائدون من اللجوء وآخرون يتحضّرون له
بعد سقوط نظام بشار الأسد، بات سؤال "هل نبقى أم نرحل؟" يشغل أذهان كثير من السوريين، وانقسموا بين من اختار العودة أملاً بحياة أفضل، ومن يسعى للهجرة خوفًا من الاضطرابات وسعيًا وراء الاستقرار.
ولكن كيف يمكن أن ينجح ذلك إذا لم تكن الحكومة منتخبة ديمقراطياً؟
هذا سؤال مشروع، في تحليلي للثورات العربية، كتبت أن حكم الأغلبية ليس فكرة جيدة أبداً. والسبب: إذا شارك معظم الناس في ثورة في بلد ما أو أيدها غالبية السكان، فإن الـ49% لن يسمحوا للـ51% بحكمهم، لأن الـ49% هم من صنعوا الثورة أيضاً. ولذلك، يجب على النظام الجديد أن يعبر بمصداقية عن أن الجميع ممثلون فيه.
هل تحقق ذلك في أي بلد عربي بعد الربيع العربي؟
في تونس، مثّلت الأحزاب السياسية في السنوات القليلة الأولى بعد الثورة حوالي 75 في المائة من السكان. ولهذا السبب استطاعت التجربة التونسية أن تصمد لمدة عشر سنوات - ليس للأبد، ولكن لفترة لا بأس بها. بالطبع، كانت هناك عوامل أخرى، لكن الوضع كان أكثر استقرارًا بكثير مقارنةً بمصر، حيث لم تستمر التجربة سوى عامين فقط. ومن هذا المنطلق، قد لا تكون العدالة الانتقالية على رأس أولويات الحكومة السورية في الوقت الراهن. فهناك بلد مدمَّر بالكامل يجب إعادة بنائه بالتوازي. هناك حاجة إلى تنمية، وهناك حاجة إلى دستور. من دون ذلك، لن يكون هناك استقرار.
هل ستُستبدل تماثيل الأسد بتماثيل الحكومة الحالية؟ أم تعتقد أنه من الممكن إنشاء مواقع تذكارية، كما هو الحال في ألمانيا، تُركز على معاناة الضحايا؟
في العراق، توجد منحوتات قوية التأثير كتلك الموجودة في ألمانيا، تُصوّر كيف أثرت الحرب على السكان. أُفضّل ذلك النوع من التماثيل على تلك التي تُجسّد "أبطالا" نصّبوا أنفسهم بأنفسهم. لكن إسقاط تماثيل الطغاة قد يُشكّل خطرًا أيضًا. في الولايات المتحدة، دار جدل حول تماثيل جنرالات الكونفدرالية. من وجهة نظري: لا تُدمّروها، بل قدموا سياقًا تاريخيًا، يجب أن يرى الناس بشاعة التاريخ.
النص مُترجم من الألمانية: محمد مجدي
سيتم نشر هذا النص قريبًا في نسخة مطبوعة مشتركة بين قنطرة ومجلة Kulturaustausch. ولمزيد من التحليلات والمقابلات والتقارير حول سوريا عبر موقعنا هنا..
قنطرة ©