رغم الحصار والحرب...غزة مكان رائع لشركات البرمجة الناشئة
بعد عام على اندلاع حرب الـ52 يوماً في صيف عام 2014، ما زال قطاع غزة أبعد ما يكون عن التعافي. فالحصاران الإسرائيلي والمصري يخنقان الاقتصاد، الذي يحذر البنك الدولي من أنه "على وشك الانهيار". كما أن معدلات البطالة هي الأعلى في العالم، إذ تبلغ 60 في المائة بين الشباب. شباب غزة هم المجموعة التي تتحمل العبء الأكبر للأزمات المتتالية، لاسيما وأنهم عالقون في "أكبر سجن بالعالم"، وفي ظل وجود فرص ضئيلة لتحسين مستقبلهم. لكن بعض هؤلاء الشباب وجدوا طريقة أخرى من أجل الوصول إلى العالم واستعادة أمل في مستقبل أفضل - إنهم يسعون لإطلاق شركات ناشئة على الإنترنت.
في مساحة مكتب مشتركة بإحدى الأبراج السكنية القريبة من ميناء غزة، تعكف مجموعة من المبرمجين ومهندسي تقنية المعلومات ومصممي صفحات الإنترنت الشباب على تحقيق حلمهم في بناء "وادي السيليكون" المقبل. ويعتقد هؤلاء الشباب أن شركة "غوغل" المقبلة قد تكون من غزة.
في أحد أيام شهر يونيو المشمسة، عرضت نوال أبو سلطان، التي تبلغ من العمر 32 عاماً، مشروعها أمام الحضور، الذي يتكون من 20 طالباً وطامحاً في بناء مشاريع ريادية. وتقول نوال إن ذلك تدريب ممتاز قبل عرض فكرتها أمام مستثمرين بعد عدة أشهر.
لقد تم اختيار فكرة نوال أبو سلطان، والتي تعمل حالياً مدرسة لمادتي العلوم والتقنية، من بين 40 فكرة أخرى شاركت في "تحدي غزة" مطلع هذا العام، وهي الآن تتنافس مع 18 فريقاً آخر ضمن الجولة الثاني من الاستثمارات التي يوفرها برنامج "Gaza Sky Geeks"، والذي يعتبر أول مسرّع للشركات الناشئة (بمعنى برنامج تعليم وإرشاد لما بعد مرحلة الاستثمار) في قطاع غزة. وفي بداية عام 2014، قدم مستثمرون محليون استثماراً أولياً تراوح بين 14 ألف و20 ألف دولار لأربعة مشاريع ناشئة من قطاع غزة. وتأمل نوال في أن يكون مشروعها، المسمى (ميناشيب)، هو التالي.
ويستهدف هذا المشروع طلبة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمساعدتهم على اختيار المنحة المناسبة لهم من أجل الدراسة في الخارج، عن طريق تزويدهم بنصائح وأدلة لكيفية تعبئة طلبات المنح. حول ذلك تقول نوال: "هناك الكثير من الطلبة في غزة ممن يبحثون عن استكمال دراستهم الجامعية في الخارج، وعادة ما يجدون عملية التقدم للمنحة مرهقة". استقت نوال أبو سلطان فكرة هذا المشروع من تجربتها الشخصية وترعرعها في غزة المحاصرة، والتي يعني فيها الحصول على منحة دراسية للدراسة في الخارج فرصة للشباب من أجل تعزيز فرصهم المهنية مستقبلاً ولمغادرة القطاع أيضاً.
جيل محاصر
ومنذ أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة عام 2007، فرضت إسرائيل حصاراً محكماً على القطاع، تضمن فرض قيود على الحركة. وللحصول على تصريح بمغادرة القطاع عن طريق معبر إيريز، الذي تسيطر عليه إسرائيل، يجب أن يكون لدى المرء تحويلة طبية أو دعوة. كما أن الحصول على إجابة للطلب يتطلب ما بين أسبوعين وشهر. أما معبر رفح الحدودي، فقد تم فتحه لمدة 18 يوماً فقط منذ الهجمات التي وقعت في أكتوبر 2014 وخلفت 30 قتيلاً من عناصر الأمن المصري، وهو ما ترك عدداً من الطلبة والمرضى الفلسطينيين عالقين. وطبقاً لماهر أبو صبحة، مدير سلطة المعابر في قطاع غزة، فإن نحو 90 ألفاً ممن تقدموا بطلبات للسفر ما زالوا عالقين في غزة.
وفي الوقت الراهن، لم تتم إعادة بناء أي من الـ19 ألف منزلاً التي دُمرت خلال الحرب التي دامت 52 يوماً، بالإضافة إلى أن ربع المساعدات المالية التي تم التعهد بها من قبل المانحين الدوليين في القاهرة منذ أكتوبر 2014 تم دفعها. وبذلك، يبقى نحو 100 ألف غزّي بلا مأوى، والتيار الكهربائي يسري فقط لست أو ثماني ساعات يومياً، ذلك أن محطة الطاقة في غزة تم إصلاحها جزئياً.
وفي ظل هذا المناخ العام، ليس من المفاجئ أن يسعى كثير من الشباب في غزة لإيجاد فرصة من أجل مغادرة القطاع. في هذا الصدد يقول رامي عبده، مدير المرصد الأورومتوسطي، وهي منظمة حقوقية محلية: "نحن لا نتحدث عن الشباب الفقير أو فاقد الأمل، بل عن عائلات الطبقة المتوسطة. هذا يثبت أن السكان يحاولون الفرار من قطاع غزة إلى أماكن أكثر أمناً ... إن حرب عام 2014 دفعت الناس من حالة عدم الثقة بمستقبل القطاع إلى حالة اليقين من أن الأمور في غزة لن تتحسن".
شابات متعلمات ينزلن إلى الساحة
في قطاع غزة، تبلغ نسبة المتعلمين حوالي 97 في المائة، خاصة بين الشباب. كما أن خُمس سكان القطاع يحملون على الأقل شهادة البكالوريوس أو شهادة تعليمية أخرى، والنساء تتأخر عن هذه النسبة بواحد أو اثنين في المائة فقط. كما أن نسبة الفلسطينيين الحاصلين على شهادة جامعية أكبر في قطاع غزة منها في الضفة الغربية.
ورغم ذلك، فإن هناك فجوة كبيرة بين الرجال والنساء فيما يتعلق بالمشاركة الإجمالية في القوة العاملة، فالنساء ما زالت حظوظهن أقل من الرجال في إيجاد فرصة عمل بعد التخرج من الجامعة إلى سوق العمل القليلة الفرص أساساً.
وبالنظر إلى أن قطاع التقنية على مستوى العالم يهيمن عليه الذكور بشكل عام، إلا أن عدداً كبيراً من النساء انخرطن في هذا القطاع بغزة، إذ تقول إليانا مونتوك، مديرة برنامج "Gaza Sky Geeks" لموقع "قنطرة": "من بين 18 فريقاً تم قبولهم في الحاضنة هذا العام، تقود النساء خمسة من تلك الفرق. كما أن النساء من بين المؤسسات المساهمات في ثمانية فرق أخرى".
لكن مونتوك تضيف بأن "العائلات تميل إلى لعب دور كبير في عملية اتخاذ القرار للنساء مقارنة بالرجال ... إطلاق مشروع ناشئ يلتهم الموارد المالية، لأنه قد يتطلب الانتظار عاماً أو اثنين قبل أن يبدأ في توليد دخل". وفي مكان مثل غزة، حيث يعيش ثلثا السكان في حالة انعدام أمان غذائي، فإن كثيراً من العائلات تفضل أن ترى بناتهن يشغلن وظيفة ثابتة بدل إدارة مشروع ناشئ.
حول ذلك ترى مونتوك أن "ما نراه في غزة هو أنها مكان ممتاز لاحتضان فكرة، فالتكاليف هنا أقل من أماكن أخرى، بينما لا يختلف مبلغ الاستثمار الذي تتلقاه هنا عما تتلقاه في الأردن، مثلاً".
وتضيف مديرة مشروع "Gaza Sky Geeks": "إذا كان هناك صراع مثلما حصل صيف عام 2014، واضطررت للتوقف عن العمل لعدة أسابيع، فإن ذلك لا يعني الكثير في هذه المرحلة. ولكن في مراحل أكثر تقدماً، عندما يكون لديك الكثير من المستخدمين أو الزبائن أو الشركات المرتبطة بمشروعك، يجب عليك أن تضمن استمرارية العمل". لذلك، تسعى المشاريع الناشئة في غزة إلى جذب أعضاء في فرقها من خارج القطاع أو عقد اتفاقيات مع شركات في الضفة الغربية يمكن تدريبها للاستمرار في القيام بالمشروع إذا تطلب الأمر ذلك.
قبل عدة أشهر، اجتمعت كل من سلام دلول وعبير الشاعر وأمل الجاروشة، اللواتي يبلغن من العمر 21 عاماً، في جامعة غزة، حيث يدرسن البرمجة، لإطلاق صفحة على موقع "فيسبوك" لتقديم نصائح للنساء حول التغذية واللياقة البدنية. هذه الصفحة حصلت على ثلاثة ملايين متابع ومتابعة من أنحاء العالم العربي، وهن الآن بصدد تحويل هذه الصفحة إلى تطبيق للهواتف الذكية يدعى "Dietii".
تقول سلام: "لقد أخذنا ما اعتبرناه أكثر الأفكار إدراراً للربح، ونحن هنا من أجل التعلم، لأننا نرغب في المستقبل بإطلاق شركتنا الخاصة بنا". وعند سؤالهن عما إذا كان مقر الشركة سيكون في غزة، كانت الإجابة واضحة: "بالطبع سيكون المقر في غزة. أنا لن أذهب إلى أي مكان، فهنا وطني".
إيلينيا غوستولي
ترجمة: ياسر أبو معيلق