حفتر...مشروع إسقاط الإسلام السياسي في ليبيا
أحدث خبر نقل الجنرال خليفة حفتر على عجل إلى المستشفى العسكري بباريس في الخامس من أبريل / نيسان 2018، للعلاج من وعكة صحية خطيرة، ردات فعل وتساؤلات متباينة داخل ليبيا. صدمة وقلق في معسكر المؤيدين له. وفرح وابتهاج في معسكر أعدائه الإسلاميين الذين تبنى إعلامهم الفضائي في الدوحة واسطنبول خبر موته المؤكد نقلاً عن وسائل إعلام عربية وأجنبية ومن أهمها صحيفة لوموند الفرنسية الشهيرة برصانتها. وبعدما أيام صرح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بأن حالة السيد حفتر الصحية تحسنت.
الشخصية الأكثر إثارة للجدال في ليبيا فمن هو هذا الجنرال الذي شغل خبر مرضه وإشاعة موته اهتماماً بالغاً في وسائل الإعلام والدوائر السياسية العربية والأجنبية؟! إنه الشخصية الأكثر إثارة للجدال في ليبيا منذ أن قاد حركة عسكرية تحت مسمى "عملية الكرامة" في شرق ليبيا (إقليم برقة) لمحاربة الميلشيات المتأسلمة الموصوفة بالإرهابية. خليفة بلقاسم حفتر من مواليد عام 1943 بمدينة إجدابيا غرب بنغازي. تخرج من الكلية العسكرية الملكية عام 1966. شارك كملازم أول في انقلاب القذافي على النظام (سبتمبر 1969). ترقى إلى رتبة عقيد عام 1980 وعُين قائداً للقوات البرية. وفي عام 1987 قاد بأوامر من الديكتاتور القذافي حملة حربية ضخمة العتاد والعداد لغزو تشاد وتغيير نظام الحكم فيها. لكنها انتهت بهزيمة مخزية للجيش الليبي وقع خلالها العقيد حفتر مع المئات من ضباطه وجنوده في أسر القوات التشادية.ونتيجة للتدخل الأمريكي عند الرئيس التشادي وحلفائه الفرنسيين، خُيّر الأسرى الليبيون بين العودة لبلادهم أو نقلهم للإقامة في الولايات المتحدة. وبينما فضل القليل جداً منهم العودة إلى ليبيا اختار معظمهم الذهاب إلى أمريكا. وكان العقيد حفتر على رأسهم. حيث استقر به المقام في "فرجينا".
انضم إلى المعارضة الليبية بقيادة "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا" وشغل فيها منصب "قائد الجيش الوطني". وعمل سريّاً من منفاه مع ضباط كبار داخل ليبيا على التخطيط لعملية انقلاب عسكري. لكن تم كشف المحاولة واعتقال رؤوسها قبل تنفيذها بأيام في أكتوبر / تشرين الأول 1993. ويبدو أنه، نتيجة لفشل المحاولة الانقلابية وخلافه مع "جبهة الإنقاذ" المعارِضة انشق عنها وقبل بالتصالح مع النظام برعاية مصرية تم بموجبها ضمان إقامته وعائلته في مصر بشرط عدم ممارسته لأي عمل سياسي معارض لنظام القذافي. من انقلاب افتراضي فضائي إلى قيادة عملية عسكرية وإذ تفجرت انتفاضة 17 فبراير / شباط 2011 التي سرعان ما تحولت إلى تمرد مسلح، وقد سقط نظام حسني مبارك، جاء العقيد حفتر من طريق البر إلى بنغازي ليجد أمامه الجنرال عبد الفتاح يونس (وزير داخلية القذافي المنشق) يترأس قوات المتمردين من عسكريين ومدنيين متطوعين. فدخل الرجلان في خلاف شخصي حاد على أحقية القيادة العسكرية. اُستبعد الجنرال حفتر من لعب أي دور عسكري قيادي عملياً. حتى ظهر فجأة مساء 14 فبراير / شباط 2014 من خلال قناة "العربية" السعودية يعلن في بيان انقلابي مسجّل عن سيطرة قوات تابعة له على مواقع عسكرية وحيوية في العاصمة وتجميد عمل البرلمان والحكومة، عارضاً ما سماه "خارطة طريق" لمستقبل ليبيا السياسي، وكأنه يستنسخ ما قام به السيسي دون أن يملك شيئا حقيقيا مما في حوزة الأول من جيش قوي موحد منضبط. كان بيانه الانقلابي افتراضيا تماما. انقلاباً فضائياً. فلم يكن على الأرض ولو جندي واحد تابع له بعدما خلت به مليشيات الزنتان التي كان يراهن عليها. لكنه لم يتوقف عن المثابرة. إذ ظهر بعد ثلاثة أشهر -أي في مايو / أيار 2014- في بنغازي يقود عملية عسكرية من بضع مئات الجنود والضباط من الجيش الليبي تحت اسم "كرامة ليبيا" في مواجهة المجموعات الإسلاموية المسلحة المسيطرة على بنغازي والمتهمة من غالبية أهل المدينة كمجموعات إرهابية مسؤولة عن مئات عمليات الاغتيال ضد عناصر الجيش والشرطة ونشطاء المجتمع المدني في المدينة.
وسرعان ما انضم إلى عملية "الكرامة" عداد متزايدة من عسكريين ومتطوعين. وصار العقيد حفتر المنقذ المنشود في نظر الغالبية الساحقة في المنطقة الشرقية على الأقل. وبضغط من أنصاره في مجلس النواب وأعيان وشيوخ القبائل ودعم قادة محاور القتال، قام رئيس مجلس النواب بصفته القائد الأعلى بتعيينه قائدا عاما للجيش وترقيته إلى رتبة فريق وفيما بعد إلى رتبة مشير. بالمقابل، في طرابلس ومصراتة في غرب البلاد تحالفت الميليشيات الإسلامية لمجابهة مشروع الجنرال حفتر الذي نجح، مستفيداً من دعم مصر والإمارات، في القضاء على الميلشيات الإسلاموية في بنغازي وكامل إقليم برقة ما عدا جيبهم الصغير في مدينة درنة الصغيرة. إسقاط مشروع الإسلام السياسي عبر المؤسسة العسكرية
وسيطرت قواته على موانئ تصدير النفط فأصبح كما تصفه صحيفة لوموند "رجل برقة القوي" وهو الذي يسعى أن يكون رجل ليبيا القوي بعد توحيد المؤسسة العسكرية والسيطرة على العاصمة طرابلس بواسطة مجلس عسكري مؤقت يشرف على مرحلة انتقال سياسي جديد لكن مرضه المفاجئ والتكتم على وضعية حالته الصحية أثار تساؤلات وجدلاً عاماً في الشارع الليبي حول مصير حركته العسكرية (عملية الكرامة) المحمولة على مشروع سياسي لحكم ليبيا؟! وهل ستستمر الدول الداعمة له (مصر، الإمارات، فرنسا...) في دعم خليفته؟! ومن قد يخلفه؟!. من الواضح لي كمراقب للأحداث من داخل المنطقة الشرقية أن غيابه عن المشهد سوف يُحدث فراغاً في تماسك أركان القيادة العامة للجيش بالنظر إلى شخصيته الكاريزمية القوية وعلاقاته الوثيقة بحلفائه الإقليميين (مصر والإمارات) والدوليين (فرنسا وروسيا). كما أن مشروعه العسكري (عملية الكرامة) للقضاء على الإرهاب وإسقاط مشروع الإسلام السياسي بإحكام سيطرة المؤسسة العسكرية الموحدة على البلاد لن يكون بعد غيابه كما هو عليه في وجوده، فهو مشروع مشخصن فيه من مؤيديه وخصومه على السواء.مؤيدوه طوّبوه في صورة "القائد المنقذ" لدرجة الوقوع في طقوس "عبادة الشخص"، بينما شيطنه خصومه الإسلاميون في صورة "قذافي جديد" يقود ثورة مضادة لـ"ثورة 17 فبراير" التي يعتبرون أنفسهم ثوارها الحقيقيين وأولياء الله عليها. وهم يعتقدون أن غياب الجنرال القوي سوف يُعجِّل بتحقيق توافق سياسي جامع يضمن لهم نصيب الأسد من السلطة.
أما في معسكر الجنرال الغائب فتوجد مخاوف جدية من تفجَّر الخلافات بين القيادات العسكرية في شرق البلاد وجنوبها على أحقية خلافته. علاوة على الأخبار المتداولة عن التدخل المصري-الإماراتي في فرض خليفة مرضي عنه. وفي كل الأحوال ورغم ما قد يحدث من مجابهات مسلحة، وربما عمليات اغتيال متبادلة هنا وهناك، في أجواء الصراع على الخلافة، فإن المؤكد، من خلال قراءتي اللصيقة بالأحداث، أن الأمور لن تتطور إلى احتراب عسكري شائك يتخذ شكلاً قبلياً لأن النسيج الاجتماعي القبلي في برقة شديد التماسك على مرِّ التاريخ وأصبح ينبذ الجماعات الإسلاموية لتفردها بالسلطة وممارساتها الإرهابية. لذلك في تقديري سوف يتم، في حالة غياب الجنرال حفتر، تعيين قائد جديد للجيش معتمد من مجلس النواب في طبرق. وسوف تكون المعركة التالية اقتحام مدينة درنة وتحريرها من آخر الميليشيات المتأسلمة في شرق البلاد. فرج العشةحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de