"الجزائر صحراء قاحلة بالنسبة للأدب العربي"
السيِّد سعيد خطيبي، أنت تكتب رواياتك بالعربية، بينما يُفضِّل مؤلفون جزائريون آخرون الكتابة بالفرنسية، لماذا؟
سعيد خطيبي: يرى بعض المؤلفين وخاصةً من الجيل الأكبر سنًا أنَّهم يتمتَّعون بمزيد من الحرِّية في اللغة الفرنسية، ولكن الأمر يتعلق أيضًا بسوق الكتاب. والجزائر بالنسبة للأدب العربي تعتبر ببساطة صحراء قاحلة - لا توجد فيها تقريبًا أية مكتبات لبيع الكتب تعرض كتبًا باللغة العربية. والجزائريون لا يزالون يميلون إلى القراءة باللغة الفرنسية، ولذلك يجب علينا في الحقيقة أن نكافح من أجل اللغة العربية.
وعلى الرغم من أنَّني قد درست الأدب الفرنسي في جامعة الجزائر ثم في جامعة السوربون في باريس وكان من المفترض أن أكتب بعد ذلك بالفرنسية، إلَّا أنَّني اخترت اللغة العربية. ولسوء الحظ فإنَّ الدولة الجزائرية -مثلًا وزارة الثقافة- لا تفعل أي شيء على الإطلاق من أجل الأدب العربي.
ولكن المعهد الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية يستثمران الكثير من أجل خلق مجتمع فرنكوفوني. وفي المقابل لا يوجد من أجل اللغة العربية أي شيء مشابه.
ورواية "في نهاية الصحراء" هي روايتي الرابعة. لقد كتبت أيضًا كتبًا أخرى وترجمت أعمالًا لكتَّاب آخرين، مثلًا للكاتب كاتب ياسين، ولكنَّني أشعر وكأنَّني جندي يجب عليّ أن أكافح من أجل اللغة العربية. وعندما أبدأ في كتابة رواية فأنا أعلم مدى صعوبة الأمر ولكنَّني أكافح. وجائزة الشيخ زايد ستساعدني في زيادة شهرتي كمؤلف في الجزائر وفي جميع أنحاء العالم العربي.
لقد كتبت روايتك الأخيرة كرواية بوليسية تاريخية. من المعروف أنَّ الروايات البوليسية كنوع أدبي ما تزال حديثة العهد في العالم العربي. برأيك ما هو السبب؟
سعيد خطيبي: هذه هي روايتي البوليسية الأولى. ومع أنَّ رواياتي الأخرى تدور حول موضوعات تاريخية من فترة الحرب الأهلية الجزائرية ولكنها ليست روايات بوليسية.
وبالنسبة لي فقد كانت فترة الحرب الأهلية فصلًا حاسمًا. وأنا أعتبر نفسي من "أبناء الحرب" لأنَّني عشت تلك الفترة في الجزائر. وأسأل نفسي أيضًا لماذا لا توجد روايات بوليسية في العالم العربي؟ وأصدقائي يسألونني دائمًا عن سبب ذلك. والجواب الوحيد الذي يخطر ببالي هو: الروايات البوليسية هي مرادف للحرِّية.
والشخص كمؤلف يحتاج من أجل رواية بوليسية إلى أكبر قدر ممكن من الحرِّية التي لا نتمتَّع بها في العالم العربي. وحتى هناك حيث لم تكن توجد رقابة حكومية، نحن رسَّخنا الرقابة في أنفسنا بعد سنين عديدة من وصاية الدولة. يجب علينا ألَّا نكتب حول الدين والسياسة وبالتالي فنحن نراقب أنفسنا.
نحن لدينا في داخل أنفسنا الأخ الأكبر (الرقيب) حتى نضمن عدم دخولنا في مشكلات مع حكوماتنا ومجتمعاتنا. ولكن لا يمكن بهذا الشكل كتابة رواية بوليسية.
وأنا لو لم أكن أعيش في أوروبا لما كان بإمكاني كتابة هذه الرواية. وهكذا فأنا أعلم أنَّ لديَّ حرَّيتي، وكذلك حرَّيتي الداخلية لكتابة ما أريد.
ومشكلتنا في العالم العربي لا تكمن في عدم وجود مؤلفين جيِّدين لدينا، فهناك كتَّاب عرب جيِّدون جدًا ولكنهم تنقصهم الحرِّية التي يحتاجها المؤلف من أجل كتابة رواية جيِّدة.
لا أحد يفعل شيئًا من أجل اللغة العربية
تدور الروايات البوليسية أيضًا حول حصول مرتكب الجريمة في النهاية على عقوبته العادلة. أَلا يعتقد المؤلفون العرب أنَّ العدالة ستنتصر في نهاية المطاف؟
سعيد خطيبي: أعتقد أنَّ ذلك يعتمد أكثر على مهارات المؤلف. يجب على المؤلف أن يضع لنفسه خطة وأن يبحث أيضًا بشكل دقيق جدًا. وأنا أمضيتُ من أجل روايتي عامًا كاملًا على الأقل في البحث وحده وبعد ذلك ثلاثة أعوام في كتابتها. وهذا عمل يتطلب قدرًا كبيرًا من الطاقة، ولا يمكن القيام به كعمل جانبي، ولكن الحرِّية الداخلية كما ذكرت هي الأساس.
ولو أنَّني كنت كتبت هذه الرواية في الجزائر لكنت خاطرت على الأقل بوظيفتي. وعلى سبيل المثال إذا كتب صحفي مقالًا لا يعجب الحكَّام فسوف يجعلونه يفقد وظيفته أو حتى يصل إلى السجن.
وأنا أعرف الكثير من الكتَّاب الذين يقولون إنَّهم لا يكتبون ما يُفكِّرون فيه حقًا لأنَّهم لا يريدون المخاطرة بوظائفهم. وأنا لست من هذه الدوائر في الجزائر، ولذلك فأنا أستطيع أن أكتب ما أريد. وقد كافحتُ بشدة من أجل تحقيق ذلك.
لكن مع ذلك هل يوجد شيء جزائري محدَّد في روايتك هذه؟
سعيد خطيبي: نحن نكافح من أجل نشر الأدب الجزائري باللغة العربية، ولكن حتى الآن لا توجد لدينا أية بنية تحتية من أجل ذلك، ولا يوجد أي دعم مالي للمؤلفين الذين يكتبون باللغة العربية ولذلك يجب على كلّ مؤلف أن يرى بنفسه كيف سيتدبَّر أموره. والمشكلة الأكبر هي عدم وجود قرَّاء لأنَّ القرَّاء في الجزائر يقرؤون بالفرنسية والدولة الجزائرية لا تفعل شيئًا من أجل دعم اللغة العربية. مع أنَّ لدينا الإمكانية فنحن نتحدَّث عن بلد عدد سكَّانه خمسة وأربعون مليون نسمة!
والوضع في الجزائر أسوأ بكثير مما هو عليه في تونس والمغرب، حيث يتم منذ بضع سنين فعل المزيد من أجل الأدب العربي. وفي الجزائر يتعيَّن عليَّ كمؤلف أن أفعل كلَّ شيء بمفردي: أن أسوِّق كتبي وأوزِّعها بنفسي وأنظِّم القراءات وتوقيع الكتب - لا أحد يساعدني.
أهم شيء أن تكتب كتابة جيِّدة
إذًا كم نسخة يمكنك أن تبيع من كلِّ رواية؟
سعيد خطيبي: ربَّما أتمكَّن من بيع ألف نسخة بعد عام من الجهود الذاتية الكبيرة. لا توجد أية محطة تلفزيونية في الجزائر تدعوني لإجراء حوار أونقاش. فجميع وسائل الإعلام الجزائرية تعتبر في يدّ أجهزة الدولة، ولا أحد في وسائل الإعلام هذه يهتم بالأدب، ناهيك عن الأدب المكتوب باللغة العربية.
ولهذا السبب فإنَّ جائزة الشيخ زايد مهمة جدًا بالنسبة لي، لأنَّها تساهم في جعل الناس في الجزائر يدركون أنَّ هناك في الواقع أدبًا جيِّدًا مكتوبًا باللغة العربية وأنَّهم يجب عليهم قراءته. وقد تبدو هذه المعرفة مثل صدمة بالنسبة للكثيرين.
من المعروف أنَّ جائزة الشيخ زايد يتم تمويلها من قِبَل دولة الإمارات. أَلا توجد في هذه الجائزة أيضًا موضوعات لا يمكن التطرُّق إليها؟
سعيد خطيبي: روايتي تتطرَّق إلى العديد من المحرَّمات ومع ذلك فقد حصلتُ على الجائزة. والفرق بين جائزة الشيخ زايد والجوائز الأدبية الأخرى في المنطقة هو أنَّ لجنة تحكيم جائزة الشيخ زايد لديها حرِّية الاختيار بحسب معايير أدبية بحتة.
وهنا لا يتعلق الأمر بكون الكاتب يساريًا أم يمينًا، بل يتعلق فقط بكونه يستطيع الكتابة. وفي الحقيقة إنَّ الأمر المهم في الحكم على أية رواية يتعلق فقط بكونها مكتوبة جيِّدًا. فلا فائدة من تطرُّق كتاب ما إلى جميع أنواع المحرَّمات إذا كان هذا الكتاب في الأصل فاشلًا أدبيًا.
"الجزائر اتَّخذت بعد استقلالها منعطفًا خاطئًا"
حول ماذا تدور روايتك هذه؟
سعيد خطيبي: الرواية تدور حول حدث مركزي وقع في الجزائر في الخامس من تشرين الأوَّل/أكتوبر 1988. فقد انطلقت في ذلك اليوم أوَّلُ انتفاضة شعبية في الجزائر بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1962. لقد كان الناس غاضبين لأنَّهم لم يكن لديهم ما يأكلونه: لا حليب ولا سكر. وكان ذلك خلال المرحلة الاشتراكية في الجزائر، حيث أطلقت الشرطة والجيش الرصاص على المتظاهرين وقتلوا الكثيرين بالرصاص.
وعندما علمتُ بما حدث كان ذلك صدمة بالنسبة لي. فكيف يمكن أن يحدث شيء كهذا بعد خمسة وعشرين عامًا من الاستقلال؟ لقد قتلت شرطتنا ببساطة المتظاهرين بالرصاص! ولكنني لا أصف ما حدث -فكلَّ طفل في الجزائر يعرف ذلك- ولكن ما يهمني هو السؤال: لماذا كان حدوث ذلك ممكنًا.
وكتُب التاريخ لا تشرح السبب. ولكنني أحاول في روايتي أن أشرح لماذا وصل الأمر إلى خروج هذا الاحتجاج الثوري إلى الشوارع. وهذا هو الفرق بالنسبة لي بين الرواية التاريخية وكتاب التاريخ.
برأيك لماذا وصل الأمر إلى هذا الحدّ؟
سعيد خطيبي: أنا لا أريد الآن الكشف عن الكثير، ولكننا اتَّخذنا في الجزائر مباشرةً بعد الاستقلال منعطفًا خاطئًا. وكانت توجد أشياء كثيرة لم نلاحظها لفترة طويلة. واحتجاجات الخامس من تشرين الأوَّل/أكتوبر 1988 شكَّلت في الوقت نفسه بداية الإسلام السياسي في الجزائر، والذي أدَّى في التسعينيات إلى العشرية السوداء - أي الحرب الأهلية التي استمرت عشر سنين. لقد بدأ كلُّ شيء في الثمانينيات.
وآمل أن يتمكَّن قريبًا القرَّاءُ في ألمانيا من قراءة روايتي هذه مترجمةً إلى الألمانية. وأنا أرى كيف تستمر أوروبا في التوجُّه أكثر وأكثر نحو اليمين وكيف يستمر الشعبويون اليمينيون في الحصول على المزيد من النفوذ. وآمل أن نستطيع من خلال الأدب والثقافة فعل شي من أجل التصدِّي لذلك.
حاورته: كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
رواية سعيد خطيبي "نهاية الصحراء"، صدرت عن دار هاشيت أنطوان، سنة 2022.
سعيد خطيبي كاتب جزائري وُلِد عام 1984 في مدينة بوسعادة الجزائرية ودرس الأدب الفرنسي في الجزائر العاصمة وباريس ثم بدأ العمل صحفيًا ومترجمًا. ويعيش اليوم في سلوفينيا. حصل عن روايته "نهاية الصحراء" على جائزة الشيخ زايد ضمن فرع "المؤلف الشاب" لعام 2023؛ وقد أثنت لجنة التحكيم على "أصالة الرواية في الأسلوب وفي التكنيك الروائي القائم على التشويق من حيث تنسيق الأحداث وترتيبها وتصاعدها"، ووصفتها بأنَّها "رواية بوليسية تاريخية نادرة في الأدب العربي المعاصر".