تركيا - إيمان بقوة النساء السياسية
"لقد خرجت من قوقعتي الآن، ولا يمكن لأحد إعادتي إليها مجدَّداً".
ملأَتْ هذه الجملة عينيَّ بدموع الفرح. على مدى أسابيع سافرنا -أنا وعدد من المدربين الآخرين- من مدينة إلى أخرى في جميع أنحاء تركيا للعمل على مشروعين منفصلين، وكان للمشروعين الهدف ذاته: زيادة عدد النساء السياسيات في تركيا.
في هذا العام 2024 يصوِّت ملايين الأتراك في الانتخابات المحلية المُقرّر إجراؤها في 31 آذار/مارس 2024 لانتخاب أكثر من 100 ألف ما بين رئيس بلدية وأعضاء مجالس بلدية ومختاري الأحياء، ونأمل في أن نرى النساء يشغلن نصف هذه المقاعد على الأقل.
الشابة -التي قالت إنها خرجت من قوقعتها- هي في أواخر العشرينيات من عمرها، وهي تريد تغيير عالمها ومحيطها نحو الأفضل. في البداية قالت إنها متردِّدة وغير واثقة من دخول السياسة، وقد اشتركت في برنامجنا التدريبي فقط لتعرف إنْ كانت السياسة شيئاً يمكنها القيام به، وبعد الأمسية أصبحت متأكدة فقالت: "نعم أستطيع".
وبحلول نهاية البرنامج التدريبي، كان كل من نظَّم ونفَّذ المشاريع منهكين. ولكن رؤيتها ورؤية العديد من النساء الأخريات -يُظهِرْنَ تصميماً وحماساً في مسعى زيادة تمثيل المرأة في السياسة التركية- جعل الأمر يستحقّ العناء.
نُفِّذ واحد من المشاريع من قبل منظمة المجتمع المدني "كا.دِر" KA.DER، والتي تعمل من أجل زيادة عدد النساء في جميع مناصب صنع القرار التي يُنتخبُ أعضاؤها.
هل تقتصر تركيا على الاحتفالات الحلال ذات يوم؟
شهدت تركيا بوتيرة متزايدة إلغاء حفلات ومهرجانات موسيقية لفنانين لا يتفقون مع مسار الحكومة أَوْ/وَ داعمين لمجتمع الميم، وغالباً ببلاغات من جماعات إسلامية وقومية موالية للحكومة. استعلام إلماس توبتشو وآينور تيكين.
تأسّست منظمة "كا.دِر" KA.DER في عام 1997 وتمارس الضغط منذ ذلك الحين من أجل المرشَّحات، وتقوم في الوقت ذاته بحملات تهدف إلى رفع الوعي العام بالتمثيل المتساوي للجنسين عبر تنظيم تعليم سياسي يستهدف النساء بشكل خاص. وقد شاركت هيئة الأمم المتحدة للمرأة في تركيا والوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي في المشروع.
أما المشروع الآخر فقد نَظَّمَتْهُ مبادرة "نحن نفعل" We Act، وهي مبادرة مشتركة تضمُّ منصة فكرية محلية -اسمها "داكتيلو" Daktilo1984- وَكذلك تضم منظمة "ألدا" ALDA وهي جمعية أوروبية تعمل على تعزيز الديمقراطية المحلية في أنحاء أوروبا. كما مَوَّلَ مشروعهم حول السياسيات وفدُ الاتحاد الأوروبي إلى تركيا.
ومنذ كانون الأول/ديسمبر 2023 زار البرنامج التدريبي العديد من المدن وشاركت فيه أكثر من 600 امرأة للتعرُّف على النظام الانتخابي لتركيا، وديناميكيات الأحزاب السياسية واستراتيجيات الاتصال والخطابة، إضافة إلى كيفية القيام بحملة انتخابية.
ونُفِّذ المشروعان على مدى أربعة إلى خمسة أيام. وبحسب المدينة المعنية تمكنت المشاركات من التعرُّف على اللوائح المتعلقة بالانتخابات والاقتصاد والميزانية المراعية للجنوسة أو للنوع الاجتماعي (للجندر) ومناقشتها، إضافة إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعَّال.
طريق طويل شائك
كانت تركيا واحدة من أوائل الدول التي منحت المرأة حق التصويت وسمحت لها بالترشح للانتخابات. مُنِح هذا الحق في عام 1934، قبل دول أوروبية مثل فرنسا وبلجيكا. ومع ذلك ففي هذه الأيام هي واحدة من الدول ذات المعدَّل الأدنى للتمثيل السياسي وللمشاركة النسائية في أوروبا.
في أيار/مايو من العام الماضي 2023 فازت النساء بـ 121 من 600 مقعد برلماني في الانتخابات الوطنية. وربما ذلك أقل من المطلوب (50%)، ولكنه لا يزال أعلى مستوى لتمثيل المرأة في التاريخ التركي الحديث. وتشغل حالياً امرأة واحدة فحسب منصباً في مجلس الوزراء التركي: وزيرة الأسرة والخدمات الاجتماعية ماهينور غوكتاش.
وأما بالنسبة للحكومات المحلية فالوضع أسوأ بكثير، فَــ 3% من رؤساء البلديات و6.66% من رؤساء بلديات الولايات الكبرى وفقط 2% من مختاري الأحياء هُم من النساء.
وقد بقيت نسبة رئيسات البلديات منخفضة بشكل كبير بعد الانتخابات المحلية الأخيرة في عام 2019، على الرغم من زيادتها من 0.8% إلى 3.2%، وهو تحسُّن بنسبة 300% مقارنة بالانتخابات المحلية لعام 2014. وبالمثل ارتفعت نسبة النساء في المجالس البلدية إلى 11% في عام 2019 مقارنة بِــ 4.2% في السابق. أما عدد مختارات الأحياء في جميع أنحاء تركيا -والذي كان 674 في عام 2014- ارتفع بنسبة 59% في عام 2019 ليصل إلى أكثر من 1070.
وتجعلنا هذه الزيادات نأمل في الوصول إلى مستويات أفضل للتمثيل النسائي في الانتخابات المقبلة في آذار/مارس 2024.
ليست مهمة سهلة
ندرك أنّ الأمر لن يكون سهلاً.
فخلال برنامج التدريب أخبرنا المشاركات بأنَّ الناخبين لديهم توقعات أكبر بكثير تجاه المرشحات مقارنة بالرجال الذين يترشَّحون للمناصب ذاتها. وهذا أمر لا ينطبق على تركيا فحسب، بل على العالم أجمع. وفي معظم الأحيان فإنَّ قضايا -مثل دعم الأسرة- لا تمثِّل مشكلة حقيقية للمرشحين الذكور، في حين تبقى مصدر قلق للنساء المرشحات للمناصب.
لكن هناك بعض الأسباب التي تنفرد بها تركيا وتعزِّز العقبات أمام وصول النساء. أولاً: لا يوجد نظام محاصصة نسائية -لا في الانتخابات العامة ولا في الانتخابات المحلية- على الرغم من الحملات المستمرة منذ سنوات بقيادة منظمات حقوق المرأة لتحقيق هذا الهدف.
ثانياً: لا توجد لوائح قانونية في تركيا تتطلب إجراءات رسمية لاختيار المرشحين. بعض الآليات تطلب رأي الفروع المحلية فيما يخص اختيار المرشَّح ولكن دائماً ما يكون القرار الأخير بيد زعماء الأحزاب السياسية، وهم رجال على الدوام.
من جانبها أوضحت رئيسة منظمة "كا.دِر" KA.DER -نوراي كارا أوغلو- أنَّ النساء مصمِّمات على الترشُّح، لكن الأحزاب كانت تتباطأ في هذه القضية. كما أضافت أنَّ المنظمة كانت تضغط على الأحزاب لتسمية المزيد من المرشَّحات كما تشجِّع الجماهير على المطالبة بالمزيد من المرشحات.
ويمكن أن يُعزَى السبب الثالث إلى المناخ السياسي المُستقطَب في تركيا. وترى المعارضة -التي خسرت الانتخابات العامة في أيار/مايو 2023- في الانتخابات المحلية فرصة لاستعادة النصر. ولذلك فإنَّ المعارَضة والتحالفات الحاكمة مُتردِّدة في تسمية مرشَّحات -لا سيما في المقاعد التي تشهد منافسة شديدة- لأنها تعتقد أنَّهن أقل قابلية للانتخاب.
"الاقتصاد الريعي" فقط للرجال؟
أشار أحد المدربين في المشروعين -وهو أستاذ العلوم السياسية إمرِه أردوغان من جامعة بيلغي في إسطنبول- إلى أنَّ الرجال غير مستعدين لتقاسم الفرص الناشئة عن "الاقتصاد الريعي" على مستوى الحكومة المحلية مع النساء.
يقول: "بسبب الاستقطاب، هناك بعض الأماكن حيث يمكن لحزب معين أن يحصل على نسبة عالية تصل إلى 70%. وبغض النظر عن المرشح فإنَّ هذه الأماكن سيفوز بها دائماً هذا الحزب السياسي المعين. لذلك إذا أرادوا فيمكنهم ترشيح النساء. بيد أنهم لا يفعلون ذلك". وهو يعتقد أنَّ هناك سببين رئيسيين لذلك.
ويضيف إمرِهْ أردوغان: "أولاً: الإدارات المحلية -ولا سيما المجالس البلدية في تركيا- منخرطة بشكل كبير في النزعة الريعية. لا أحد يعرف في الواقع متى وكم مرة تجتمع هذه المجالس البلدية وما تفعله بالضبط، غير أنها تتخذ قرارات بشأن القضايا الريعية للمدن وما هي المناطق التي ستُخصَّص للبناء وما هي المناقصات التي ستُعقد وإلى أي شركة ستُمنَح وكيف ستُوزَّع المصالح الاقتصادية، ولا يريد الرجال ببساطة تشارك هذه الفوائد مع النساء".
ويضيف: "يمكن للأحزاب السياسية تعيين نساء في قوائمها لمجالس المدن، بيد أنَّها لا تقوم بذلك حتى في دوائرها الانتخابية الآمنة، بسبب هذه المصالح الريعية".
يواصل إمرِهْ أردوغان كلامه بالقول إنَّ العلاقات بين الأحزاب دائماً تفضِّل الرجال. ويهيمن الرجال على مثل هذه الديناميكيات، ولهذا السبب لا يتمتع قادة الأحزاب "بالشجاعة الكافية" لترشيح النساء لمناصب قابلة للانتخاب، بغض النظر عن الإيديولوجية السياسية لحزبهم.
النساء في كل مكان
وعلى الرغم من أنَّ الأحزاب السياسية ليست مستعدة لتسمية مرشَّحات -كما تشكو المشارِكات في المشاريع- فإنَّ النساء موجودات في كل مكان على المستوى الشعبي أثناء الحملات الانتخابية.
وفي هذا السياق قالت إحدى المشاركِات: "قد لا تكون أحزابنا على استعداد لترشيحنا، بيد أنَّها مستعدة تماماً لاستخدام قوتنا. فنحن مَن ننتقل من باب إلى باب للحديث مع الناخبين. ونحن من ننظم التجمُّعات، ونصمِّم اللافتات، ونفكِّر في التفاصيل العملية البسيطة للحملات مثل وجبات طعام العاملين في الحزب".
وبينما قد لا يرغب السياسيون في مشاركة الفوائد الريعية للحكومة المحلية مع النساء، فإنّ الأحزاب السياسية تطلب على الأقل رسوماً أقل من النساء عندما يتقدمن للترشّح. تتغيّر الرسوم بناءً على المنصب الذي يترشّحون له، ولكن معظمهن لا يدفعن سوى نصف ما يُطلب من الرجال. ويلتزم بهذا المبدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي كذلك.
بيد أن هذا يبقى بمثابة امتياز بسيط بالنسبة للمرشحات. ففي النهاية تتطلَّب السياسة والانتخابات قدراً هائلاً من الإنفاق. وهذا واحد من الأمور الرئيسية التي تُقلِق المشاركات معنا. حين تحدثنا معهن حول ميزانية الحملة اشتكت العديد منهن من أنّ ميزانيتهن محدودة وأنَّ عليهن الاعتماد على تضامن المتطوعات الأخريات.
تضامن بين النساء رغم الاستقطاب
كانت درجة التضامن بين النساء المحليات -لا سيما في مدن الأناضول- ملاحظة مشتركة بين المسؤولين عن التدريب في المشروعين. حين سألتُ إليف مندريس -التي أجرت دورة تدريبية لمدة يوم كامل حول التحدث أمام الجمهور- حول المميز في تجربتها التدريبية لم تفاجئني إجابتها حين قالت: "التضامن بين النساء، على الرغم من الاستقطاب السياسي".
تابعت: "كان من الرائع رؤية كيفية تنظيم النساء، ولا سيما في الأناضول. ربما لم يكنَّ منظَّمات من الناحية الرسمية، بيد أنَّ التضامن بينهن كان جميلاً للغاية. تمحور أحد أقسام الدورة التدريبية التي قدمتُها حول كيفية إلقاء الخطب باستخدام الميكروفون وكانت النساء يتكلمن واحدة تلو الأخرى، ولأنهن ينتمين إلى أحزاب سياسية مختلفة ألقين أحياناً خطابات إما متناقضة أو انتقدت بعضهن البعض. ولكن حتى في هذه الحالة شجعن وصفقن بعضهن لبعض".
كما قالت إنها قد تأثرت بمثابرة النساء. وقالت إنَّ موقفهن المتمثِّل في عدم الاستسلام -على الرغم من كل العوائق التي تقف أمامهن- واعد للغاية بالنسبة للمستقبل.
"كلما طالت القائمة أصبحنا أكثر سعادة"
كما أظهرت استطلاعات الرأي أنَّ الشعب التركي يدعم مثابرة واجتهاد المرأة في السياسة. إذ كشفت دراسة حديثة أجرتها "جمعية أنا أنتخب" في أيلول/سبتمبر 2022 -التي تضغط من أجل المرشحات في السياسة- وشركة الاستطلاعات المرموقة "كوندا" أنَّ 62% من الذين شملهم الاستطلاع قالوا إنَّ السياسيات سيساعدن تركيا لتتطور ولتصبح مجتمعاً أفضل.
أيَّد عدد مماثل الحصص الإلزامية للنساء في الأحزاب السياسية. كما قال ما يقارب من ثلاثة أرباع المشاركين إنهم سيدعمون دخول امرأة من عائلتهم إلى عالم السياسة.
طُلِب من الأحزاب السياسية تقديم قوائم مرشحيها، ومن المرشحين المستقلين تقديم ترشيحاتهم إلى المجلس الأعلى للانتخابات بحلول 12 شباط/فبراير 2024. أعددنا لائحتنا الخاصة، وتضمُّ العديد من أسماء المشاركين الذين استُكمِلت طلبات ترشيحهم.
وتعتقد مدربة أخرى -سِمين غوموشال غونار التي ألقت محاضرة على المشاركات حول العلاقات الإعلامية وحملات الاتصالات- أنه كلما طالت القائمة كان ذلك أفضل. إذ تقول: "وسيكون الأمر أكثر بهجة إن انتُخِبت الأسماء الموجودة في هذه القائمة".
غير أنَّها أضافت أنَّ المرشحات المحتملات ينبغي أن يكنّ مدركات لأمر واحد: قد لا ترشِّحهن أحزابهن، وحتى إن رشحتهن قد لا ينتخبهن الناخبون.
أخبرتُهن بأنه: "إذا كان الأمر كذلك، فلا تستسلمن. اِبدأن العمل تحضيراً للانتخابات المقبلة ومن فضلكن لا تنسين أن وجودكن هنا -وكل الأمور التي ناقشناها في إطار هذا التدريب- أمر في غاية الأهمية. إنها بذرة، وهذه البذرة ستغير السياسة في تركيا، ببطء ولكن بثبات".
"إنها قوة النساء فآمنوا بها".
عائشة كارابات
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024