بين حراك السويداء المتجدّد وصمت الساحل السوري المزمن!

جرى رفع علم "الثورة السورية" في مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة لأول مرة منذ سنوات خلال مظاهرات شهدتها مدينة السويداء احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية.
جرى رفع علم "الثورة السورية" في مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة لأول مرة منذ سنوات خلال مظاهرات شهدتها مدينة السويداء احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية.

جدّدت "الانتفاضة الشعبية"، كما يسميها كثيرون من أهالي السويداء، الأملَ بإمكانية استئناف الثورة السورية بوجهها المدني السلمي، وذلك من خلال استمرارية الاحتجاجات وتنوّع الأنشطة التي تبدعها حشود المتظاهرين، بمشاركة نسائية كثيفة وفاعلة. تعليق طارق عزيزة لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : طارق عزيزة

مضى نحو شهر على إعلان عصيان مدني، وانطلاق موجة حراك شعبي سلمي ضدّ نظام الأسد، في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية جنوب سوريا. وزاد من زخم المشاركة الشعبية دعم ومباركة الشيخ حكمت الهجري لحراك الشارع، وهو واحد من ثلاثة شيوخ عقل، يمثلون الرئاسة الروحية لطائفة الموحّدين الدروز في سوريا، مقابل موقف زميليه الآخَرين الذي جاء هزيلاً، وأقرب إلى مهادنة النظام.

لم يصدر عن أجهزة السلطة الأمنية والمليشيات المحلّية الملحقة بها أي ردّ فعل أمني ظاهر على الأرض، على الرّغم من إغلاق المحتجّين مقارّ حزب البعث الحاكم، ورفع سقف الهتافات والشعارات، لتتجاوز المسائل المطلبية والعناوين العامّة، إلى المطالبة الصريحة بإسقاط الأسد ونظامه، وإزالة صور بشار وحافظ الأسد وأعلام ورموز البعث الحاكم من الساحات العامة والمباني الحكومية. سارع سوريون معارضون إلى تنظيم وقفات وتظاهرات تضامنية، تدعم حراك أبناء السويداء وتشدّ من أزرهم، شهدتها محافظة درعا المجاورة، وحلب ومناطق من الشمال السوري، إضافة إلى مدن عديدة في ألمانيا وسواها من بلدان اللجوء الأوروبية.

جدّدت هذه "الانتفاضة الشعبية"، كما يسميها كثيرون من أهالي السويداء، الأملَ بإمكانية استئناف الثورة السورية بوجهها المدني السلمي، وذلك من خلال استمرارية الاحتجاجات وتنوّع الأنشطة التي تبدعها حشود المتظاهرين، بمشاركة نسائية كثيفة وفاعلة.

ومما يميّز انتفاضة السويداء أنّها تفسد على نظام الأسد البروباغندا التي تصف كل من يعارضه بأنه يدعم التطرف والإرهاب، على ما دأب إعلامه في سعيه إلى وسم الثورة السورية، منذ انطلاقتها أواسط آذار/ مارس 2011، بأنها ليست سوى "فتنة طائفية"، تنفذها "جماعات إسلامية تكفيرية"، قوامها جهاديون سنّة تحديداً. فهذه الاتهامات لا تنطبق على التركيبة الاجتماعية في السويداء المنتفضة، بل إنّ الدروز أنفسهم جزء من "الأقليات" التي يدّعي النظام حمايتها من الخطر الجهادي!

 

من ساحة السير/الكرامة في السويداء: الشعب يريد إسقاط النظام #إضراب_السويداء#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/ffMEUuNsfn

— السويداء 24 (@suwayda24) August 26, 2023

 

"انتفاضة السويداء تفسد على نظام الأسد البروباغندا التي تصف كل من يعارضه بأنه يدعم التطرف والإرهاب"

 

شهدت الفترة السابقة لهذه التطورات رواج تحليلات تترقّب حراكَاً وشيكاً في الساحل السوري، حيث تقطن غالبية من الطائفة العلوية التي تنحدر منها عائلة الأسد، نظراً إلى شيوع حالة غير مسبوقة من الإحباط والاحتقان والسخط بين العلويين، نتيجة تدهور كارثي في الأوضاع المعيشية للسكان، حتى بات من الصعوبة بمكان تأمين قوت يومهم، وأبسط احتياجاتهم الأساسية.

وفي مقابل ما يرزحون تحته من فقر مدقع قارب حدود المجاعة، يتنعّم الأسد وأقاربه بثروات طائلة لا يمكن حصرها، ومن الأمثلة الدامغة ما كشفت عنه وثيقة مسرّبة، تداولها ناشطون على موقع فيسبوك، من ملفّ دعوة قضائية باسم كندة بنت محمد مخلوف، خال بشار الأسد ووالد رامي مخلوف، تطالب فيها بحصتها الإرثية من أرملة أبيها، والبالغة عشرات ملايين اليورو والدولار.

 

جاءت الاحتجاجات عقب قرار السلطات السورية في منتصف آب - أغسطس رفع الدعم عن الوقود في خضم أزمة اقتصادية تخنق السوريين بعد أكثر من 12 عاماً من نزاع مدمر.

شاهد: المظاهرات المناوئة للنظام السوري تتواصل في السويداء https://t.co/ffnhZ5mO5n pic.twitter.com/KrfxYjAYSG

— euronews عــربي (@euronewsar) September 8, 2023

 

كان من المؤشرات على إمكانية انفجار الأوضاع في الساحل، ازدياد عدد الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، من أبناء المنطقة العلويين تحديداً، الذين واظبوا على كتابة منشورات، أو الظهور في فيديوهات بث مباشر، تهاجم النظام بجرأة وشجاعة، حتى أنّ بعضهم تناول بشار الأسد وزوجته أسماء بشكل مباشر، وحرّض الناس على الخروج عن صمتهم، والانتفاض من أجل حقوقهم.

تزامن ذلك مع الإعلان عن تأسيس "حركة 10 آب"، والتي يُعتَقَد أنّ من يقفون وراءها ينحدرون من مناطق الساحل السوري، وأثارت جدلاً واسعاً بين السوريين، موالين ومعارضين، بالنظر إلى غموضها، أو بسبب تباين وجهات النظر حول المطالب الواردة في بيانها التأسيسي، وأساليب نضالها السلمي المعلَن، وكان أوّلها حملة قصاصات ورقية تحريضية بسيطة، ألقيت في شوارع مدن وبلدات سورية متفرقة، وثّقتها مقاطع مصوّرة، نُشرت على الصفحة الرسمية للحركة. كما سُجّل نشاط تحريضي مكثّف، على وسائل التواصل للتجمع الشبابي في "حركة الشغل المدني"، وهي حركة سياسية معارضة ينشط أعضاؤها بصورة أساسية في مناطق الساحل السوري، ويرأسها المحامي عيسى ابراهيم، الناشط المعارض المقيم حالياً في الخارج.

 

فصول قصّة الثورة السورية لم تكتمل بعد: إعادة الاعتبار للنضال المدني السلمي

 

 

لكن مع تواصُل انتفاضة السويداء، وعزمِ ناشطاتها ونشطائها على تنظيم حراكهم الثوري وتجذيره، بدا من اللافت والمثير للتساؤل لدى كثير من المتابعين إحجامُ نشطاء الساحل عن بدء احتجاجات تُلاقي حراك الجنوب، وتترجم حالة الغضب السائدة إلى أفعال ملموسة. وعلى الرغم من تداول منشورات على فيسبوك، عن إحباط السلطات محاولات للتظاهر في عدد من القرى والبلدات في أرياف اللاذقية وجبلة وحتى القرداحة معقل عائلة الأسد، لكن ليس هناك ما يؤكّد صحة هذه المعلومات.

يرى ناشطون من أبناء الساحل أنّ هذا التقاعس سببه شدّة القبضة الأمنية، سواء الرسمية أو المليشياوية المرتبطة بآل الأسد في تلك المنطقة، وبالتالي الخوف المسيطر على الناس. ففي مقابل التجاهل الحاصل من قبل النظام تجاه حراك السويداء، يمكن ملاحظة جملة إجراءات استباقية اتّخذتها مخابراته للسيطرة على الموقف، منها تكثيف انتشار عناصرها ودورياتها في مدن الساحل كافّة.

وبحسب مصادر خاصة موثوقة، استدعت فروع الأمن في اللاذقية وطرطوس ما لا يقل عن مئة شخص، خلال شهر أغسطس/آب فقط، أحيل بعضهم إلى القضاء، وصدرت أحكام بتوقيفهم بناء على قضايا تتعلّق بما يسمّى "جرائم إلكترونية"، وهو أسلوب جديد تتبعه أجهزة أمن الأسد، لتغطية ممارساتها القمعية بإجراءات "قانونية" شكلية، فيما أخلي سبيل آخرين أقلّ نشاطاً أو جذرية، بعد تهديدهم بتوجيه تهم جنائية أشدّ، في حال عادوا إلى الكتابة على فيسبوك.

يمكن، من المنظور نفسه، قراءة إصدار بشار الأسد مرسوماً يقضي بتعيين محافظ جديد في طرطوس خلال الفترة نفسها، فالخطوة هذه لم تأتِ بغرض التخفيف من حدّة الاحتقان الشعبي في المحافظة من خلال إجراء تغيير شكلي، وإنما حملت رسالة تهديد واضحة، يُستدلّ عليها من سيرة المحافظ الجديد فراس الحامد، فهو ضابط متقاعد حديثاً من المخابرات العامة (إدارة أمن الدولة)، بعد خدمة حافلة بالجرائم والانتهاكات بحقّ المعتقلين، خلال تولّيه رئاسة فرعي أمن الدولة، في حمص خلال مراحل الثورة الأولى الثورة، ثم في اللاذقية حتى نهاية خدمته.

 

The regime appointed Colonel Firas al-Hamid as the governor of Tartus. Replacing a civil servant with a high-ranking security official signifies Assad's preparation for potential unrest amidst rising public anger in coastal areas, leaving nothing to chance https://t.co/JYtVPUBOTH

— Haid Haid (@HaidHaid22) August 24, 2023

 

غير أنّ هذه المعطيات كلّها لا تعني بالضرورة الجزم بقدرة النظام على مواصلة إحكام قبضته على الساحل إلى ما لا نهاية، وسيكون من الصعب التكهّن بما تحمله الأيام القادمة، في حال استمرّ تصاعد الزخم الثوري في السويداء، وامتدّ بصورة منظّمة ومنسّقة، جغرافياً ونوعياً، إلى الدرجة التي قد تسبب إرباكاً جدّياً للنظام، ما قد يسهم في دفع نشطاء الساحل إلى تنفيذ خطوات جدّية شجاعة، تكسر حاجز الخوف، وتغيّر قواعد اللعبة.

صحيح أنّ دروس التجربة السورية تؤكّد خطورة الإسراف في الأمل، وصعوبة استئناف السيرورة الثورية، بعد كل الذي أصابها من تعثّر وانكسار، لكنّ ما يجري في السويداء الآن يسمح للسوريين بشيء من التفاؤل، وإن رافقه حذر شديد. المسألة الأهمّ هي إعادة الإعتبار للنضال المدني السلمي، وهذا سيتيح استثمار الغليان الشعبي الناجم عن تردّي الأوضاع المعيشية، وتحويله إلى فعل تغييري يثمر سياسياً.

ولعلّ من المفيد التذكير مجدّداً بأنّ نظام الأسد كان في ذروة سطوته وجبروته عام 2011، حين بدأ ثوار سوريا وثائراتها تلك الملحمة البطولية، وشرعوا يغيّرون مسار التاريخ ويكتبون قصّتهم، وهذا هو مفهوم الثورة، وفق رأي الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت: "أنّ مسار التاريخ يبدأ من جديد، وأنّ قصة جديدة تماماً، لم ترو سابقاً ولم تُتَعرّف قط، هي على وشك أن تظهر".

ولأنّ فصول قصّة الثورة السورية لم تكتمل بعد، فإنّ الفرصة ما زالت سانحة أمام الصامتين والمتردّدين، من أجل التخلّي عن خوفهم وأوهامهم وقيودهم الصدئة، والمشاركة في كتابتها.

 

طارق عزيزة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

طارق عزيزة كاتب وباحث سوري.