سيادة القانون وأعداؤه المتهورون

رجل وامرأتان محجبتان يقفون أمام لوحة تذكارية لضحايا الهجوم بالسكين في زولينغن.
هجوم زولينغن الدموي أثار جدلا كبيرا في ألمانيا حول طرد السوريين والأفغان مرتكبي الجرائم. Photo: Picture Alliance/dpa | T. Banneyer

يبدو أن أولئك الذين يلجأون إلى الأسد أو طالبان في المسائل الأمنية بدلاً من الدولة الألمانية، لا يفهمون كيف تنبض تلك الأنظمة. فجدل الترحيل منذ الهجوم الإرهابي في زولينغن ليس عنصرية صريحة فحسب، بل تقويض للديمقراطية الألمانية، كما ترى المحلّلة السياسية الألمانية بينتِه شيلَر لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Bente Scheller

في هجوم دموي بالسكين، قُتل ثلاثة أشخاص وأصيب ثمانية آخرون يوم الجمعة الماضي في مدينة زولينغن الألمانية، على يد سوري أعلن ولاءه لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومنذ ذلك الحين، لم يتطرق السياسيون في ألمانيا إلى الإخفاقات في منع العنف أو النقص الكبير في عدد موظفي سلطات الهجرة، بل تفوّقوا على بعضهم البعض في محاولاتهم لجعل خطط الترحيل إلى أفغانستان أو سوريا ممكنة.

نفذت الحكومة الألمانية، اليوم الجمعة 30 أغسطس / آب 2024، أول عملية ترحيل لمواطنين أفغان منذ عودة حركة طالبان إلى السلطة في أغسطس / آب 2021. وأقلعت طائرة ترحيل تحمل "28 مجرما" من مطار لايبزيغ/هاله الألماني صباح اليوم الجمعة، حسبما أعلنت وزيرة الداخلية نانسي فيزر (الحزب الاشتراكي الديمقراطي).

قال السياسي المختص بالشؤون الخارجية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD (حزب المستشار شولتس)، نيلز شميد، إن "المحادثات مع نظام الأسد أو طالبان لا مفر منها" من أجل تمكين تنظيم عمليات الترحيل. وكان المستشار الاتحادي أولاف شولتس (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) قد أعلن في أعقاب هجوم سابق بسكين نفذه أفغاني بمدينة مانهايم في شهر يونيو/حزيران الماضي عن إمكانية ترحيل المجرمين والإرهابيين الخطيرين إلى هذه الدول مرة أخرى.

لوحة تذكارية في زولينغن، كتب الناس أفكارهم وأمنياتهم للضحايا عليها.
لست وحدك.. كتب المشيعون لضحايا الهجوم الإرهابي على موقع الجريمة في زولينغن. الصورة Photo: Picture Alliance/dpa | T. Banneyer

المعارضة بدورها، قدمت تعليقات مشابهة؛ تحدث رئيس الكتلة البرلمانية للاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU) فريدريش ميرتس عن "حالة طوارئ وطنية"، ودعا إلى فرض حظر عام على دخول الأشخاص القادمين من أفغانستان وسوريا. كما دعا وزير الداخلية في ولاية بافاريا يواخيم هيرمان (حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي CSU)، إلى "إعادة تقييم الوضع في سوريا". فيما زعمت سارة فاغنكنشت (تحالف سارة فاغنكنشت) أنه "لا يوجد سبب يدعو إلى السماح بدخول أشخاص من هذا البلد إلى ألمانيا بشكل عام"، لقد انتهت الحرب السورية.

هذه التصريحات السياسية الجريئة، التي تتعارض مع الدستور الألماني واتفاقية جنيف، تسبب بالفعل ضررًا سياسيًا كبيرًا. حتى وإن استهدفت تلك المقترحات المجرمين فقط، فإن العنصرية الصريحة التي ظهرت في هذه النقاشات، والتي تصب في مصلحة حزب البديل من أجل ألمانيا، أمر مزعج. كما أن هذا الجدل يثير صدمة الكثير من اللاجئين خاصةً أنّه يدور حول دولتين لم تعد حكوماتهما تتظاهران حتى باحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي. 

الأسد لا يريد عودة السوريين

بعد استعادة السلطة مرة أخرى في أفغانستان عام 2021، سعت طالبان في البداية إلى تبني موقفا أكثر اعتدالا. في غضون ذلك، مرّروا تشريعات قانونية لقمع حقوق النساء بطريقة أكثر تطرفا من أي دولة أخرى. حتى وإن لم يظهروا أي طموح لتصدير أجندتهم الأكثر تطرفا للخارج، فإن ترحيل المجرمين الإسلاميين إلى مكان يمكن الاحتفاء بهم فيه، بدلا من إدانتهم على جرائهم من شأنه أن يضر بالمصالح الأمنية الألمانية.

ينطبق الأمر نفسه على سوريا، فلا سيادة للقانون في أي من المناطق التي تفككت إليها البلاد. وتشهد تقارير الأمين العام للأمم المتحدة على ذلك. وذكر آخر تقرير عن الوضع في البلاد بأكملها عام 2023: "لا يزال السوريون يعانون من انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك عمليات القتل المستهدفة أو الاعتقالات التعسفية أو الوفاة أثناء الاحتجاز". وفي النصف الأول من هذا العام، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 53 حالة وفاة تحت التعذيب. وكتب الخبير في الشأن السوري بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، تشارلز ليستر، الثلاثاء، "لقد قُتل أكثر من 68 شخصا في 12 محافظة من أصل 14 محافظة في سوريا خلال الأسبوع الماضي.. أعمال الحرب والتمرد والإرهاب والجريمة المُنظمة منتشرة في كل مكان".

وبغض النظر عن حقيقة أن عمليات الترحيل يجب التفاوض بشأنها بين مؤسسات الدولة، وأن أكثر من ثلثي أراضي سوريا خارج سيطرة النظام السوري -في إدلب بالشمال الغربي، حيث تحكم الميليشيا الإسلامية هيئة تحرير الشام، وفي المناطق التي تسيطر عليها تركيا من خلال الجيش الوطني السوري SNA-، من غير المرجح أن يتم تقديم المتطرفين المُرّحلين إلى العدالة واحتجازهم بأمان، تماما كما هو الحال في أفغانستان. 

لقد تعهد الرئيس بشار الأسد باستعادة السيطرة على كل شبر من سوريا – ولكنه يُفضل أن يكون ذلك بدون السكان الذي فروا منها ذات يوم-. كما لم يُظهر النظام أبدًا أي استعداد للسماح بعودة اللاجئين، هددهم مسئولون سوريون رفيعو المستوى بأن فرارهم لن "يُنسى أو يُغتفر". وقد فرّ معظم اللاجئين؛ لأن النظام طردهم بالبراميل المتفجرة والتجويع والأسلحة الكيماوية واختطاف أكثر من 100 ألف شخص. 

أكبر مُنتج لمخدر الكبتاغون

لا يكفي أن ننظر إلى آخر الجبهات المتبقية من الحرب، لفهم سبب طلب 600 شخص من سوريا اللجوء إلى ألمانيا كل شهر حتى يومنا هذا. فقد أعقب القتال في سوريا حربًا قانونية: وصدرت سلسلة كاملة من الإجراءات القانونية الجديدة لمصادرة ممتلكات اللاجئين في المناطق التي يسيطر عليها النظام وإعادة بيعها. وقد أدى ذلك إلى خلق واقع يصعب فيه عودة المالكين الفعليين إلى هناك. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاقتصاد السوري في حالة مزرية. فقد تم تدمير العديد من المصانع وانتقلت الشركات إلى تركيا. 

هذا جعل مصادر الدخل غير المشروعة أكثر حيوية لنظام الأسد. تحتل سوريا المرتبة الحادية عشرة من بين 193 دولة بمؤشر الجريمة المنظمة العالمي. وبحسب المؤشر، تشمل الجهات الفاعلة الإجرامية في سوريا كيانات مختلفة، أبرزها منظمات فاعلة داخل الدولة". وأبرز مثال على ذلك، تجارة الكبتاغون، التي يتحكم بها شقيق الأسد؛ ماهر الأسد والعديد من أبناء عمومته، وقد جعلوا من سوريا أكبر مُنتِج للمخدر في العالم.   

ويعاني السكان مما يصفه الخبير الاقتصادي السوري كرم شعار، وعالم السياسات ستيفن هايدمان بـ"بنية الفساد" المتمثلة في الشبكات الاقتصادية التي تكافئ الموالين للنظام، وتضخ الأموال في خزائن الأسد. ولإبقاء قوات الأمن سعيدة (مسرورة)، يتسامح النظام مع الميليشيات الموالية للنظام والجيش على حد سواء، أو يشجعها على زيادة دخلها من خلال الابتزاز والفساد. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يضطر أقارب المحتجزين قسريا إلى دفع مبالغ من أربعة أضعاف لزيارة أحبائهم.  

فساد مُتقن

سيستخدم النظام أي وسيلة لتقسيم المجتمعات الغربية - بما في ذلك الهجرة وكذلك الإرهاب. في عامي 2020 و2021، نقلت العديد من الرحلات الجوية من دمشق اللاجئين السوريين إلى الحدود البولندية عبر بيلاروسيا حتى يتمكنوا من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي من هناك. ولم ينتهِ التهريب المنظم إلا بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على شركة الطيران "شام وينجز"، ويُفترض أن المساهم الرئيسي في شركة الطيران في ذلك الوقت كان رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري. 

كما ثبت أن اللتعاطي مع اللاجئين السوريين في لبنان خاصةً كانت مروعة. رفض نظام الأسد تقديم حل لأكثر من مليون شخص؛ فالعائدون القلائل الذين يقبلهم النظام يواجهون خطر اقتيادهم مباشرة إلى مراكز الاستجواب التابعة للمخابرات السورية. يُفرج عن بعضهم مقابل فدية، ويُعرض على العديد منهم أن يتم تهريبهم مجددا إلى لبنان مقابل حوالي 200 دولار أمريكي، وهو أسلوب تجاري ذاتي الاستدامة والفساد المتُقن. 

أي شخص في ألمانيا يتوقع من القيادة في دمشق أن تتعاون في القضايا الأمنية لا يفهم ما الذي يجعل النظام في دمشق يتصرف على هذا النحو. استشارة الأسد لحل المشكلات الأمنية لا تجعله شريكا. بدلاً من ذلك، ستجعل هذه المقاربة الأسد يشعر في قرارة نفسه أنه شخص لا غنى عنه، وهو ما سيدفعه إلى تأجيج تلك المشكلات. وحتى في الماضي، أثبت الأسد أنه لم يكن أكثر فائدة من المتطرفين الإسلاميين في تلك القضايا.

فقط بالمقارنة مع وحشية تنظيم الدولة الإسلامية كان الأسد قادرًا على تقديم نفسه على أنه "أهون الشرور"- رغم أن خبيرًا في القانون الدولي وصفه بأنه يرتكب جرائم "القتل على نطاق واسع". وكلما بدت الفرصة مناسبة، أطلق الأسد يد تنظيم الدولة الإسلامية في القتل، على سبيل المثال عندما منع تنظيم داعش، إجلاء 400 عضو من الخوذ البيضاء السورية، الذين كانوا دائمًا شوكة في خاصرة النظام، من منطقة الحرب في عام 2018. أو لترهيب الأقليات، كما في حالة الدروز في السويداء بجنوب سوريا في عام 2018، الذين لم تساعدهم قوات النظام إلا بعد أن قتل وخطف التنظيم بالفعل المئات منهم.

هل يمكن للأكراد استقبال المجرمين؟

لم يبق سوى شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا التي يهيمن عليها الأكراد. هذه المنطقة المتميزة اقتصاديًا بتربتها الخصبة واحتياطاتها من النفط والغاز، نجت من دمار كبير بعدما تعرضها لضربات النظام السوري الجوية. كما أن الأكراد لا يُشتبه في دعمهم للمتطرفين الإسلاميين، لأنهم كانوا شركاء الغرب في الحرب ضد تنظيم داعش. 

ومع ذلك، بمجرد هزيمة داعش على الأرض عام 2017، لم تعد معظم الدول الغربية تعتبر نفسها مسؤولة عن الصراع. لا يزال هناك 45 ألف معتقل من خلايا داعش قابعين حتى اليوم في مركز احتجاز الهول، بما في ذلك الآلاف ممن يطلق عليهم رعايا الدول الثالثة، وبعضهم يحمل جنسيات غربية. وترفض العديد من تلك الدول استعادة مواطنيها.   

تقول كريستين هيلبرغ، الخبيرة الألمانية في الشأن السوري، إن ألمانيا قد أعادت 27 امرأة و80 طفلاً ورجلا واحدا فقط إلى البلاد، ولكنها تترك نحو 30 مواطنا آخرين من الذكور هناك. في الواقع، استمرار احتجاز الآلاف في مخيم الهول منذ سنوات دون محاكمة لا تمثل مشكلة من منظور حقوق الإنسان فحسب، بل أيضًا لأسباب أمنية؛ فالأطفال ينشأون داخل المخيم في بيئة عنيفة ومتطرفة دون أي آفاق مستقبلية. 

 ولا يزال أكراد سوريا يتلقون الدعم من حوالي 900 جندي أمريكي يقومون بحراسة السجون والمخيمات في شمال شرق سوريا، من بين أدوار أخرى. ومع ذلك، إذا فاز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني، فليس هناك ما يضمن بقاء القوات الأمريكية في سوريا. ومن يتوقع أن تستقبل الإدارة الذاتية الكردية، السوريين الذين ارتكبوا جرائم جنائية من ألمانيا، سيتعين على الأقل تقديم حل لمقاتلي داعش الألمان المتبقين بمخيم الهول في المقابل.

خلاصة القول؛ يتجاهل الجدل الدائر في ألمانيا الواقع في سوريا. كما أنه يؤجج الاستياء ويطرح مطالب غير معقولة لا يمكن تنفيذها. في الوقت نفسه، يقوض السياسيون أسس الديمقراطية عندما يتركون انطباعا غير مبالين، بأنه لا يمكن التعامل مع الإرهاب بالوسائل القانونية وحدها.

*  آخر تحديث للمقال في 2 سبتمبر/أيلول

بينته شيلَر تترأس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسَّسة هاينريش بول المقرَّبة من حزب الخضر في برلين منذ 2019. وعملت منذ عام 2012 وحتى عام 2019 رئيسة مكتب مؤسَّسة هاينريش بول الإقليمي في الشرق الأوسط في بيروت بلبنان. وتولت قبل ذلك رئاسة مكتب المؤسَّسة في أفغانستان وعملت منذ عام 2002 وحتى عام 2004 مستشارة لمكافحة الإرهاب في السفارة الألمانية بدمشق. ونالت الدكتوراه من جامعة برلين الحرة عن أطروحتها حول السياسة الخارجية السورية.

موقع قنطرة 2024