ايران: ذهنية الملالي السياسية وتحطم مبادئ "الجمهورية" المتوهمة

خامنئي وقادة الحرس الثوري الإيراني.
خامنئي وقادة الحرس الثوري الإيراني.

مثل كل الحركات الإسلاموية التي تشتق مفاهيمها من التراث الديني النظري وتعمد إلى تطويع مقولاتها الجديدة بالدرجة التي يمكن توظيفها تنظيمياً وحركياً، عمد الإمام الخميني للترويج لجمل مؤدلجة بهدف التعبئة، الدينية والقومية، وتحقيق الأهداف البراغماتية والطائفية لـ"الجمهورية الإسلامية". تعليق كريم شفيق.

الكاتب، الكاتبة : كريم شفيق

لا تعد عملية التأثر والتأثير المتبادلين بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر ونخبة الثورة الإيرانية، أمراً عفوياً، بل إنّه يؤشر إلى التماسك البنيوي في رؤيتهم تجاه العالم والآخر، وكذا اصطفافهم السياسي.

كل ذلك حدا بالمرشد الإيراني، علي خامنئي، إلى أن يعكف على ترجمة كتاب المفكر الإسلامي المنتمي للإخوان، سيد قطب، صاحب مقولات "الجاهلية" و"العصبة المؤمنة" بالإضافة إلى دعوته الرئيسية "الحاكمية لله".

الكتاب الذي ترجمه خامنئي في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي عنونه بـ": بيان ضد الحضارة الغربية". ولا يخلو العنوان الجديد من توطئة، مقصودة ومتعمدة، للضغط أو الاقتراب أكثر من مقاربة الملالي السياسية بالقطيعة مع الغرب والعالم الذي تم تصنيفه ضمن "قوى الاستكبار العالمي".

مفهوم الحاكمية

ويكاد لا يختلف مفهوم الحاكمية لدى سيد قطب عن تأويلات خامنئي النظرية كما ذكرها في مقدمة الكتاب الذى اعتنى بترجمته للفارسية. اعتبر قطب أنّ "المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم (!) وإذا أردنا التحديد الموضوعی، قلنا: إنّه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده". ومن ثم، فالسلطة الشرعية الوحيدة، عند قطب، كما هي عند المودودي، في نظام الحكم الصالح (وهو بالضرورة مسلم) هي حكم الله (الحاكمية لله).

وفي مقدمة الكتاب، في نسخته الفارسية، يقول خامنئي إنّ "الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه التي أبدعها الإمام الخميني وطرحها أمام العالم، هي تلك الحكومة الإسلامية التي تعني حاكمية الإسلام والدين والشريعة، وهذا المعنى يجب أن يفهم جيداً".

هذه المبادئ والقيم المختلطة جرى استدعاؤها قسراً من النطاق الديني، لجهة تعميمها في الفضاء العام والسياسي عبر الأجهزة الإعلامية والثقافية. بينما تولت مأسسة (وإدارة) أفكار النخبة الدينية (سياسياً) التي صعدت للحكم منذ عام 1979.

تضخيم المظلومية

فيما تصر أدبيات الثورة الإسلامية على تعميم تصورات دينية راديكالية تطوق جماعاتها المتخيلة، بينما تضطلع بدورها في عزل الأفراد عن أيّ جماعات أخرى لا تقف في حيز "الولي الفقيه" ومداه السياسي. تلخص هذه الرؤية عبارة وردت بالدستور الإيراني تقول: "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء". وهي عبارة تحقق ما هو أبعد من العزل السياسي، حيث إنّها تصنع ذاكرة انتقائية من خلال تضخيم المظلومية التاريخية والدينية.

 

احتجاجات في لبنان. Proteste im Libanon Foto Reuters
قطعية مع السياسة الوصائية: في المحصلة تبدو الاحتجاجات التي تطوق النظام الإيراني، محلياً، بل وتطاوله في مجاله الحيوي، إقليمياً، كما حدث في احتجاجات تشرين في بغداد وبيروت، مواجهة حتمية للقطعية مع السياسة الوصائية التي يتبناها "الولي الفقيه"، بينما يقوم بتنفيذها وكلاؤه المحليون من "حزب الله" إلى "الحشد الشعبي". وهم الآخرون يملكون الثروة والسلاح التي تحمي امتيازاتهم الفئوية، بينما حواضنهم تتمرد على أوضاعهم التي وصلت بهم للحافة.

 

غداة الثورة الإيرانية، قال الخميني إنّ "يوم القدس يوم عالمي، وليس يوماً يخص القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعَفين للمستكبرين". فالعالم، كما في التصور الديني الأصولي ينقسم إلى شطرين أحدهما دار سلام والآخر دار حرب، تشظي في نظرية الخميني السياسية إلى "مُستكبِرين" و"مُستضعَفين"، لتوليد لغة خطاب سياسي تعبوي وعنيف من المفردات القرآنية في إطار صراعاته وحروبه المقدسة.

عملية تآكل

لكن المبادئ التي روّج لها الخميني وساهمت في ترميم حواضنه المجتمعية الشيعية، ثم نجح في تحويلها لأدوات صنع بها سياسته الخارجية، كما هو الحال مع مفهوم "المستضعفين"، لا يبدو أنها تحظى بالشرعية ذاتها بعد أربعة عقود، بل وتعاني من التآكل والمراجعة بفعل إخفاقات عديدة وتحت وطأة احتجاجات متباينة. ولم تنجُ من عملية التهميش والتآكل سوى مؤسساتها التي تحتفظ بالاسم، فقط، وانحرفت نحو أدوار مغايرة عن ما جاء في خطابات تأسيسها. بينما تحولت مؤسسات "المستضعفين" إلى اقتصاديات خاصة بأوليغاركية عسكريتارية تقبض على المال والثروة والسلاح.

اللافت أنّ المرشد الإيراني له فتوى شهيرة رفضت قطعاً نشر أيّ معلومات عن قضايا الفساد في إيران. وقال إنّ "الأصلح هو الإبلاغ بها إلى الجهات الحكومية المعنية". وسبق للعضو البرلماني الإيراني علي رضا زاكاني أنّ قال: "الفساد انتشر في كل هياكل الجمهورية الإسلامية".

حدث ذلك في خضم صراع سياسي محموم نهاية حكم محمود أحمدي نجاد والذي هدد بالكشف عن أسماء وأجهزة نافذة متورطة في قضايا فساد. الأمر الذي استدعى قبل فتوى خامنئي صدام نجاد مع رئيس أركان الجيش، حسن فيروزبادي، والأخير اعتبر اتهامات الرئيس الإيراني السابق "غير مقبولة" بينما الهدف منها "تشويش الرأي العام". طبعاً في لحظة تنافس انتخابي محتدم يخفي محاولات ضرب وتصفية الخصوم.

رعاية مادية

وفي كتابها: "الخبرة الإيرانية: الانتقال من الثورة للدولة" تقول أمل حمادة، إنّ الفساد البنيوي في هياكل الاقتصاد الإيراني، والذي يطاول كافة المؤسسات والأجهزة، كرسه تصرف مؤسسات وتنظيميات ثورية تابعة للمرشد الإيراني ولا تملك الحكومة أي رقابة وسلطة عليها. فهذه المؤسسات معفاة من الضرائب بموجب مرسوم من الخميني، بينما تعمل خارج نطاق الحكومة ولا تخضع للمساءلة البرلمانية.

وتضيف: "وهنا، نذكر، مثلا، الحرس الثوري، ومؤسسة خاتم الأنبياء ومؤسسة القدس الرضوي، ومؤسسة الباسيج، ومؤسسة المستضعفين. والريع النفطي يمثل المورد الأساسي لهذه الشبكة الواسعة من المؤسسات.

ومن المؤكد أنّ دور هذه المؤسسات كان حاسماً في تأمين حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي وحماية الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً من التأثير السلبي للوسطاء التجاريين والمضاربين في مختلف المجالات".

أدلجة المجتمعات

صحيح أنّ مؤسسات مثل "الشهيد" و"المستضعفين"، بدأت كل منهما بتقديم رعاية مادية هائلة، فضلاً عن خدمات صحية وتعليمية وسكنية لضحايا الحرب العراقية الإيرانية وذويهم، لكنّها تخطت، لاحقاً، هذا الدور، الذي بدا مرحلياً ومؤقتاً، أو بالأحرى انتهازياً، لتنفيذ سياسة خارجية ضمن مشروع نفوذ "الولي الفقيه" لأدلجة المجتمعات الشيعية في عدد من بلدان المنطقة، ورعاية الجاليات المسلمة في الغرب.

 

لقطات أرشيفية للاحتجاجات في طهران - إيران - عقب وفاة الكردية جينا محسا أميني. Archivaufnahme von Protesten in Teheran -Iran- nach dem Tod der Kurdin Jina Mahsa Amini picture alliance/dpa
لقطات أرشيفية للاحتجاجات في طهران - إيران - عقب وفاة الكردية جينا مهسا أميني: معضلة "الثورة"، التي يحتمي بها النظام في إيران: تتمثل هذه المعضلة في حيازة النظام الإيراني ثروات هائلة عبر آليات قمعية، وقد حققت التراكم الرأسمالي بين فئات بعينها، ووصلت لمستويات مافياوية. هذه الفئات المستفيدة من ارتباطاتها العضوية بشبكات الحكم، ومنهم رجالات الدين، لا تختلف عن الأنماط السائدة خلال فترة حكم الشاه. هذا ما تؤكده الاحتجاجات الممتدة منذ عام 1979، مروراً باحتجاجات تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، واستمرت هذه الموجة التي عرفت باحتجاجات الوقود حتى عام 2021. فضلاً عن التظاهرات المتواصلة، حتى الآن، بعد مقتل مهسا أميني على يد أفراد دورية "شرطة الأخلاق". فـ"هي صرخات المستضعفين المدوية، إذ فشلت منظومة الولي الفقيه في الوفاء بوعودها التي قطعتها بتمكينهم. وربما كانت الاحتجاجات الأخيرة هي الصرخة التي اخترقت جدار الصمت. إذ لم تسمع النخبة الدينية الإيرانية الحاكمة مثلها منذ اندلاع الثورة". وفق كتاب "حراك المستضعفين".

 

وبالعودة للدستور الإيراني، فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تضع ضمن أولوياتها القصوى "دعم النضال المشروع للمستضعَفين ضد المستكبِرين في كل بقعة من بقاع العالم".

فيما عرج الدستور الإيراني في مقدمته على توضيح آليات "الجمهورية الإسلامية" في إدارة السياسية الخارجية، وقال: "بالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت حركة تهدف إلى نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين، فإنّ الدستور يعدّ الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً في ما يتعلق بتوسيع العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية. إذ يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم، ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم".

إذاً، تنفيذ هذه السياسات بميزانيات ضخمة تجعل الرقابة على هذه المؤسسات منخفضة ومنعدمة تماماً. فالنظام "استخدم الثروة الوطنية وإمكانيات الدولة وسائل لحشد الدعم الأيديولوجي له، بحيث تجري عملية الصرف بعيداً عن أيّ رقابة حكومية، ويكون الغطاء دائماً هو الاحتراز من أعداء الثورة"، بحسب ما لمّح تييري كوفيل في كتابه: "إيران الثورة الخفية"، الصادر عن دار الفارابي.

أثرياء الأيدولوجية

ونتيجة لهذه الممارسات "أسست طبقة كاملة من الزبائن وأثرياء الأيدولوجية الذين يقايضون ولاءهم للنظام الحاكم بالامتيازات التي يحصلون عليها، ويؤدون دور الوسطاء بين قيادة النظام والقوى التي تقوم بتأمين الاستقرار ومواجهة أيّ تحرك اجتماعي معارض. وإضافة إلى دور هذه العلاقة الزبائنية في تشجيع الفساد فإنّها تعمل أيضاً على إطالة أمد الاستبداد السياسي، وكل الاختلالات الاجتماعية والثقافية المصاحبة له".

غير أنّ ثمّة متغيرات قصوى تجري في إيران بعد أكثر من أربعة عقود من الثورة. فـ"الحاصل أنّ إيران تمر بعملية تعبئة متواصلة تختلط فيها مطالب الإصلاح السياسي من جانب الطبقات الأكثر حظاً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، بمطالب الفئات المحرومة الأكثر تضرراً من الأوضاع المعيشية الصعبة ومن هيمنة النخبة الدينية على مقاليد الأمور، مما أعاق الدولة وجعلها أسيرة للأيديولوجيا ومبادئها شديدة الراديكالية". بحسب ما جاء في كتاب "حراك المستضعفين وتآكل مبادئ الثورة الإيرانية"، وهو كتاب من جزئين أحدهما للباحث عبد الرؤوف الغنيمي والثاني لمحمود أبو القاسم.

ويردف: "خلق ذلك الوضع تعبئة ومقاومة متواصلة، نجح خلالها الخميني في طرح مشروع الجمهورية الإسلامية بدلاً من الدولة الشاهنشاهية التي كانت قد وصلت بإيران إلى أفق مسدود، وأسهم في ذلك أيضاً أنّ الدولة قد استنفدت عوامل بقائها واستمرارها.

مستويات مافياوية

ولا شك أنّ التاريخ يعيد نفسه في حلقات متكررة من الأحداث والوقائع الكبرى التي تواجه فيها الأنظمة السياسية السلطوية المصير ذاته. تواجه الثورة الإيرانية اليوم مأزقاً كبيراً على الرغم من أنّها انتهت إلى طرح مشروع ديني في أعقاب معارضتها لنظام الشاه السلطوي، كما أنّها تبنت مبدأ نصرة المستضعفين والمضطهدين كأحد أهم مبادئها ودافعت عن قيم العدالة الاجتماعية والمساواة، ووعدت بالاستقلال والحرية وإقامة "الجمهورية الإسلامية بدلاً من الملكية العلمانية".

 

 

وبالتالي، فإنّ معضلة "الثورة"، التي يحتمي بها النظام في إيران، تتمثل في حيازته ثروات هائلة عبر آليات قمعية، وقد حققت التراكم الرأسمالي بين فئات بعينها، ووصلت لمستويات مافياوية. هذه الفئات المستفيدة من ارتباطاتها العضوية بشبكات الحكم، ومنهم رجالات الدين، لا تختلف عن الأنماط السائدة خلال فترة حكم الشاه.

هذا ما تؤكده الاحتجاجات الممتدة منذ عام 1979، مروراً باحتجاجات تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، واستمرت هذه الموجة التي عرفت باحتجاجات الوقود حتى عام 2021. فضلاً عن التظاهرات المتواصلة، حتى الآن، بعد مقتل مهسا أميني على يد أفراد دورية "شرطة الأخلاق". فـ"هي صرخات المستضعفين المدوية، إذ فشلت منظومة الولي الفقيه في الوفاء بوعودها التي قطعتها بتمكينهم. وربما كانت الاحتجاجات الأخيرة هي الصرخة التي اخترقت جدار الصمت. إذ لم تسمع النخبة الدينية الإيرانية الحاكمة مثلها منذ اندلاع الثورة". وفق كتاب "حراك المستضعفين".

سياسة وصائية

وفي المحصلة، تبدو الاحتجاجات التي تطوق النظام، محلياً، بل وتطاوله في مجاله الحيوي، إقليمياً، كما حدث في احتجاجات تشرين في بغداد وبيروت، مواجهة حتمية للقطيعة مع السياسة الوصائية التي يتبناها "الولي الفقيه"، بينما يقوم بتنفيذها وكلاؤه المحليون من "حزب الله" إلى "الحشد الشعبي". وهم الآخرون يملكون الثروة والسلاح التي تحمي امتيازاتهم الفئوية، بينما حواضنهم تتمرد على أوضاعهم التي وصلت بهم للحافة.

 

 

كريم شفيق

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de