على ألمانيا تبني سياسة تعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي
السياسيون الألمان من كافة الأحزاب لم يتعبوا من التأكيد على القول بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. صحيح أنهم تأسفوا على الضحايا المدنيين، لكنهم دعموا أيضا مطلب إسرائيل بنزع السلاح من قطاع غزة، حتى أثناء قصف إسرائيل لهذا القطاع الساحلي، وبذلك فقد وافقوا بشكل غير مباشر على عملية إسرائيل العسكرية. فمن ذا الذي سيجرد حماس من السلاح غير إسرائيل؟
ناهيك عن ذلك، لم تتقدم ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون منذ زمن بعيد بمبادرة جديَّة للتهدئة أو لهدنة طويلة الأمد أو حتى لتسوية الصراع، إنما بدوا وكأنهم كومبارس فقط، بينما حاول جون كيري وزير الخارجية الأمريكي، بعجز متزايد ولكن دون كلل، التوصل إلى اتفاق قابل للحياة، فيما لم ينتـُج عن لقاء وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في باريس في 26 يوليو/ تموز الماضي 2014 أكثر من مجرد المطالبة بهدنة لدواعي إنسانية.
ومنذ بداية العام الجاري 2014 لم يعُد لدى الأوروبيين مبعوث خاص للشرق الأوسط من شأنه أن يتحدث هناك إلى الأطراف. وأصلاً ليس لدى دول الاتحاد الأوروبي علاقة مع حماس الموضوعة على لائحة الإرهاب الخاصة بالاتحاد الأوروبي، وبالتالي قطعت هذه الدول الطريق على نفسها وخسرت فرصة أن تكون في موضع الوسيط المستقل وفرصة التأثير. واللجنة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة لم تعُد تلعب دورا منذ فترة طويلة. وتوني بلير الذي ما زال يحتل منصب المبعوث الدولي للجنة الرباعية الدولية وضع نفسه في موقفٍ محرج بسبب مبادرة للتهدئة أراد أن يتباحث حولها فقط مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
لا وسيط في الأفق
وبينما قدمت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا عرضا بتوفير مساعدات أوروبية ومساعدة لأجل ضبط الحدود، وبالتالي دعم فتح قطاع غزة، إلا أن دور الأوروبيين كوسيط فعال ظل غائبا. أما الدعم المستمر لمصر كوسيط أساسي فهو غير مفهوم.
لا شك في أن لمصر دورا مهما بصفتها جارة إسرائيل وشريكة لها، بيد أن موقف نظام السيسي القاطع المناهض للقوى الإسلامية أضعف بشكل واضح من قدرة مصر على التوسط لتحقيق هدنة، وباتت مصر غير ملائمة للقيام بدور الوسيط النزيه بين إسرائيل وحماس، ولا يوجد في الأفق أي وسيط مقبول من الطرفين.
وعليه فقد انتهى الهجوم الإسرائيلي البري بعد قرار إسرائيلي بانسحاب أحادي الجانب، وذلك رغم أن الهدف المعلَن في البداية كان وقف إطلاق صواريخ حماس، الأمر الذي لم يتحقق حتى بعد 29 يوما من استخدام القوة العسكرية الشديدة. وكما في السابق لا نهاية للمعارك، ولا تقدم لمحادثات التهدئة المتعثرة، كما أن ذلك يكمن أيضا في سعي حكومة نتنياهو إلى تجنُب تقديم تنازلات تبدو فيها وكأنها قد تراجعت أمام حماس.
اقتراح وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بأن تتولى الأمم المتحدة إدارة قطاع غزة يبدو وكأنه يهدف إلى تبرئة سلطة الاحتلال الإسرائيلية من تحمل مسؤولية المواطنين المدنيين هناك ومن مشاركة المسؤولية عن الحرب الكارثية، كما يهدف الاقتراح إلى إخضاع المناطق الفلسطينية بشكل دائم لأنظمة مختلفة، بدلا من تحقيق الوحدة السياسية في دولة فلسطينية.
وبعد انتهاء المعارك يكون في البداية تقديم المساعدات الإنسانية للناس وإعادة تشييد البنية التحتية الأساسية، مثل محطة الكهرباء الوحيدة ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي والمدارس والمستشفيات التي دمرت في الحرب، أولوية ملحَّة. ولكن لا ينبغي أن يُلقى هذا العبء مجددا على المجتمع الدولي، لا سيما وأن أسباب الجولة التالية من الحرب مبرمجة مسبقا.
كسر دائرة العنف
لذا وعلى عكس اتفاق سنة 2012، لا بدَّ من اتفاق على هدنة يتضمن ليس فقط فتح قطاع غزة، إنما أيضا الإجراءات الملموسة لتنفيذ الاتفاق، وجدير هنا بالذكر أن الاتفاقات التي حصلت عبر الوساطة الأمريكية لدى انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، والتي كان من شأنها أن تتيح للفلسطينيين حرية التنقل (ما سمي "اتفاقية التنقل والعبور")، لم تنفذ بتاتا، أو تم وقف العمل بها سريعا.
والآن وبعد الحرب المدمرة يجب أخيرا انتهاز الفرصة لكسر دائرة الحصار ولإنهاء غياب الأفق ولوضع حد للعنف بشكل دائم، وإطلاق آليات تفضي إلى إنهاء الاحتلال. بغير ذلك سيظل هناك تهديد بالانزلاق إلى العنف بعد 2014 كما حصل بعد 2006 و 2008/2009 و 2012، وهو عنف لن تبقى القدس ولا الضفة الغربية بمنأى عنه تماما.
بغية تجنُّب المعركة العسكرية التالية في غزة لا بدَّ من تغيير الوضع القائم بشكل جذري، وهنا على ألمانيا وشركائها الأوروبيين أن يدفعوا لعقد مؤتمر لأجل غزة يكون بوضوح أكثر من اجتماع للمانحين بكثير.
وبالأحرى ينبغي أن يكون مؤتمرا يُلزم بالدرجة الأولى إسرائيل، بصفتها سلطة الاحتلال، والدولة الجارة مصر، إضافة إلى الفلسطينيين، ويضع الأسس لفتح قطاع غزة بشكل دائم وبإشراف وكفالة دوليين. وهنا يمكن بالفعل كما اقترح وزراء الخارجية الأوروبيون إعادة إرسال "بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية في رفح" السابقة، على أنْ يكون حجمها أكبر هذه المرة ، وأن تتولى مهمات، على المعابر الحدودية بين غزة ومصر وبين غزة وإسرائيل، تشمل أيضا منع تهريب السلاح.
لا آفاق لحل الدولتين بلا حرية تنقل
قدمت دول من الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة عرضا بتوفير المواسح الضوئية اللازمة للتقليل من المخاطر الأمنية ولتسهيل نقل البضائع. ولكن الحكومة الإسرائيلية رفضت في ديسمبر/ كانون أول 2013 أن يُنصَب مثل هذا الجهاز بعدما تقدمت به هولندا، والذي كان من شأنه أن يكون مناسبا لفحص صادرات غزة إلى الضفة الغربية ولتذليل المخاوف الأمنية الإسرائيلية، من هنا يصبح التزام إسرائيل ومصر بضمان حرية تنقل الفلسطينيين وحرية نقل البضائع أمرا جوهريا.
بلا حرية حركة تتيح التنقل بين غزة والضفة الغربية والقدس سوف يصبح أفق حل الدولتين، الذي أصبح بعيدا أصلا، أفقا عفا عليه الزمن. ومن دون انتقال مضبوط للبضائع لن تقوم قائمة للاقتصاد في قطاع غزة من جديد.
ومن الأهمية المحورية أيضا أن تلغي إسرائيل المناطق العازلة التي فرضتها، والتي منعت استخدام نحو ثلث الأراضي الزراعية في غزة، وأن تعيد السماح بصيد الأسماك حتى عمق عشرين ميلا بحريا كما جاء في اتفاقية أوسلو، فالصيد يشكل قطاعا اقتصاديا مهما في غزة، وكذلك توسيع الميناء. وتحتاج الأجيال الناشئة، وتعدادها الأكبر في قطاع غزة، إلى آفاق وفرص جديدة، هكذا فقط يمكن الوصول إلى تعايش سلمي مع إسرائيل، وليس من خلال الضربات الصاروخية التي يصيب جزء كبير منها السكان المدنيين.
وينبغي أن تكون حكومة الوحدة الوطنية - فوق الحزبية - التي تأسست بناءً على اتفاق بين حماس وفتح، الشريكَ الفلسطيني الأساس للمجتمع الدولي. وقد رحبت الحكومة الألمانية بخجل بهذه الحكومة، ومع ذلك لم تدعمها حقا حتى الآن.
ولم تمارس ألمانيا وحلفاؤها نقدا لإسرائيل عندما بدأت بتقويض الحكومة الفلسطينية الجديدة، وذلك بالرغم من أن هذه الحكومة التزمت بما يسمى بمعايير اللجنة الرباعية: التخلي عن العنف، والاعتراف بالعقود السابقة، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. والآن آن الأوان لمساعدة هذه الحكومة لكي تحكم فعلاً في غزة أيضا، وهناك فرص أكيدة لتحقيق ذلك: حاليا يفاوض وفد يُمثل الفصائل الفلسطينية حول هدنة. وقد ألمحت حماس بإمكانية أن تقوم قوات أمن تابعة للسلطة الفلسطينية بضبط المعابر على الجانب الفلسطيني.
ضرورة وجود مساعدة خارجية لعقد اتفاقية سلام
إذن، تحقيق استقرار بعيد الأمد وربما نزع السلاح لن يتما إلا في إطار اتفاقية سلام تـُعقَد بين إسرائيل والفلسطينيين. وواضح للعيان أن أطراف الصراع لن تتمكن من توقيع اتفاقية تضمن حقوق الجميع بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، إنْ لم تكُن هناك مساعدة خارجية.
لذا على ألمانيا سويةً مع شركائها الأوروبيين بذل الجهود مجددا لاستصدار قرار خاص بالأمن يحدد عناصر تسوية الصراع، وينص على وساطة متينة للمفاوضات حول المسائل التفصيلية ضمن إطار زمني واضح، ويحدد بشكل جلي التبعات التي سوف تترتب في حال فشلت المفاوضات. وهذا من شأنه أنْ يجعل ألمانيا تتحمل مسؤوليتها الخاصة التي تؤكد عليها دائما تجاه أمن إسرائيل، الذي سيُضمَن على النحو الأفضل من خلال حل الدولتين.
الواضح أيضا أن حل الدولتين لن ينجح من دون مواجهة ائتلاف حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية، ففي نهاية المطاف أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنفسه وبما لا يدع مجالا للشك أن وجود دولة فلسطينية أمر لا يمكنه تخيُّله. إضافةً إلى ذلك فقد حث هو في السنوات الأخيرة على سياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية والقدس، ولم ينفذ اتفاقية الهدنة الموقعة سنة 2012 والتي تنص على تخفيف الحصار عن قطاع غزة.
وبالنظر إلى العنف المكثف الذي مورس على المدنيين أثناء حرب غزة، وإلى العنف الذي مورس ضد الاحتجاجات في الضفة الغربية وأدى إلى مقتل 12 شخصا وجرح المئات، يجب على الحكومة الألمانية أنْ تفحص بشكل ملحّ مسألة تزويد إسرائيل -سلطة الاحتلال- بالسلاح بناءً على اتفاقية تعاون التسليح معها، كما عليها أنْ تساند التحقيقات حول جرائم الحرب وخرق حقوق الإنسان، أكانت من طرف حماس أم من طرف الجيش الإسرائيلي، وعليها أن تتخلى عن مقاومتها لمسعى فلسطين للانضمام إلى محكمة العدل الدولية، وهي مؤسسة تدعمها ألمانيا دبلوماسيا بقوة، وهي قادرة على تناول جرائم الحرب بمصداقية وبشكل حيادي.
وأخيرا وليس آخرا، على ألمانيا أن تكُف عن دعم سياسة الاستيطان المنافية للقانون الدولي، وهنا ليس من خلال الإشارة إلى مقاطعة منتجات المستوطنات في إطار قرار الاتحاد الأوروبي إنما أيضا من خلال وقف التصدير إليها.
موريل أسيبورغ / رينيه فيلدأنغل
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2014
تعمل الدكتورة الألمانية موريل أسيبورغ في المعهد الألماني للسياسة الدولية والأمنية المرموق مديرة لفريق البحث المختص في قضايا الشرق الأوسط. ويعمل الدكتور الألماتي رينيه فيلدأنغل مديرا لمكتب مؤسسة هاينرش بول في رام الله. لقد نُشرت نسخة مختصرة لهذا المقال التحليلي في صحيفة فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ الألمانية.