أيقونة الكرة المصرية تنأى بنفسها عن فخ الاستقطاب السياسي البغيض
قلة هؤلاء الذين يستطيعون جسر هوة الاستقطاب الحاد في مصر بين مناصري ومعارضي جماعة الإخوان المسلمين بعد الانقلاب العسكري الذي جرى عام 2013، والذي أسقط الرئيس محمد مرسي. قضية محمد أبو تريكة، وهو أحد أشهر لاعبي كرة القدم المصرية، يمكن اعتبارها كالاستثناء الذي يثبت القاعدة أو دليلاً على تغير في المواقف، في أعقاب الضجة الإعلامية التي سببها تجميد أموال شركته على يد السلطات بسبب الاشتباه في تمويلها للإخوان.
العلامة الفارقة لأبو تريكة كانت دائماً كسر القالب التقليدي، فهالة الاحترام التي يحظى بها في مصر سببها حصوله على لقب لاعب العام في أفريقيا أربع مرات، بالإضافة إلى دوره الجوهري في حصول نادي الأهلي المصري الذي يلعب فيه على جملة من الألقاب الأفريقية والمصرية، ناهيك عن الكؤوس التي حصل عليها كجزء من المنتخب الوطني المصري. هذه الهالة ما تزال تحيط به رغم الجدل الذي أثاره رفضه لإخفاء ميوله الإسلامية والمناصرة للفلسطينيين، بالإضافة إلى دعمه لمجموعة "ألتراس أهلاوي"، وهي مجموعة من المشجعين المناصرين للنادي الأهلي لعبت دوراً مركزياً في الانتفاضة الشعبية المصرية عام 2011، وما تبعها من احتجاجات ضد الحكومة.
شعبية متواصلة رغم اعتزال الملاعب
السيل المتواصل من الدعم عقب قرار تجميد أموال وكالة السفر التي يملكها أبو تريكة لا توضح فقط الشعبية المتواصلة له رغم اعتزاله الملاعب عام 2013، بل وتشير إلى قدرته على الترفّع فوق خطوط المواجهة المتجذرة في مصر. فمن بين من أدلوا بتصريحات مساندة لأبو تريكة كثير من زملائه اللاعبين، وهي مجموعة تميزت بحرصها التاريخي على البقاء على الحياد سياسياً وكانت غائبة بشكل واضح عن الثورة التي أسقطت الرئيس حسني مبارك عام 2011، والاحتجاجات العارمة التي أدت إلى الإطاحة بمرسي عام 2013.
لاعبو كرة القدم هؤلاء، الذي يحتفي بهم قادة البلاد المستبدون والمدراء الذين تعينهم تلك الأنظمة، لطالما شكلوا عنوان ما يسميه المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل هشام شرابي "النظام الأبوي الحديث"، وهو مفهوم تطور في كتابه المثير للجدل "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" الصادر عام 1992، والذي ما يزال ممنوعاً في كثير من الدول العربية.
ويرى الدكتور شرابي في كتابه أن المجتمع العربي كان مبنياً على سيطرة شخصية الأب (رأس العائلة الذي تتمحور حوله العائلة النووية والقومية أيضاً). وبين الحاكم والمحكوم أو بين الأب والابن كانت توجد علاقات رأسية: ففي كلا السياقين تعتبر الإرادة الأبوية مطلقة وتُنقل في المجتمع والعائلة عبر إجماع مُكرَه مبني على الطقوس والإجبار.
رأس النظام أبو كل الآباء ويتربع على قمة الهرم
بمعنى آخر، وطبقاً لشرابي، فإن الأنظمة العربية رخّصت القمع بحيث يشارك المقموعون، ضمن مجتمع مبني على ثقافة الأبوية، في قمعهم وحرمانهم من حقوقهم. هذا يعني أن رأس النظام أبو كل الآباء ويتربع على قمة الهرم.
إن تعاطف القادة المخلوعين في مصر واليمن وليبيا - أمثال حسني مبارك وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي، بالإضافة إلى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ومن خلفهم في المنصب مع منتخباتهم الوطنية حوّل نجاح تلك المنتخبات أو فشلها إلى مقياس لأداء الأنظمة نفسها.
كما حول هؤلاء القادة اللاعبين المشهورين ومدراء الأندية إلى مناصرين للأنظمة يرون في الحاكم المستبد أباً لهم. اللاعبون المصريون، باستثناء أبو تريكة، الذي أيد ترشح محمد مرسي للرئاسة، ومهاجم الأهلي أحمد عبد الظاهر، لم يكونوا استثناءً. عبد الظاهر حوّل إلى التحقيق في نوفمبر من العام 2013، بعد أن رفع إشارة "رابعة"، التي يرفعها معارضو الانقلاب، بعد ثلاثة شهور من مقتل المئات على يد قوات الأمن أثناء فضها لاعتصام نظمته جماعة الإخوان في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة.
ردود الفعل على تجميد أصول شركة "أصحاب تورز" على يد لجنة "حصر وإدارة أموال الإخوان المسلمين"، بعد اعتبار الجماعة منظمة إرهابية وإلقاء القبض على مدير الشركة بتهمة الاشتباه في تمويلها لهجمات كسرت "قالب الشرابي". فقد أدى تجميد الأموال هذا إلى اشتعال جمهور كرة القدم في مصر، التي يسيطر عليها هوس كرة القدم.
"تكفي مكانتك في قلوب المصريين"
"أصحاب تورز" واحدة من ثماني شركات سياحة استهدفتها اللجنة. من جهتها، أكدت وسائل الإعلام الموالية للحكومة أن أبو تريكة قام بتأسيس شركة "أصحاب تورز" في عام 2013 وذلك بهدف تمويل الإخوان. كما أن قرار التجميد تبع هجمات متكررة على أبو تريكة من قبل بعض الصحفيين الرياضيين الموالين للحكومة، والذين ركزوا على صلاته المزعومة بالإخوان.
لكن أبو تريكة أشعل مواقع التواصل الاجتماعي عندما كتب في تغريدة على حسابه بموقع "تويتر": "نحن من نأتي بالأموال لتبقى في أيدينا، وليست في قلوبنا. تتحفظ على الأموال أو تتحفظ على من تتحفظ عليه. لن أترك البلد، وسأعمل فيها وعلي رقيها". ومن بين مجموعة من عبارات الوسم (هاشتاغ) المؤيدة لأبو تريكة، لاحظت المدونة المصرية التي تكتب من خلال الاسم المستعار "زينوبيا"، أن التغريدات المؤيدة للحكومة ردت على تلك العبارات بعبارات وسم تصف أبو تريكة بأنه "خروف إخواني".
وفي رد فعل على هذه الهجمات، كتب لاعب نادي الأهلي سابقاً سيد معوض على حسابه في "تويتر": "أحبك في الله". أما مدير المنتخب الوطني المصري، أحمد حسن، فقد غرّد قائلاً: "بعيداً عن أي انتماءات سياسية، سأظل أشهد شهادة أحاسب عليها أمام الله أن هذا الشخص قمة في الاحترام والأخلاق". هذا وحذر لاعب نادي وادي دجلة، أحمد الميرغني، من أن "تجميد أموال أبو تريكة أمر كارثي".
من جانبه، كتب لاعب خط وسط نادي الزمالك، عمر جابر: "فخور كوني لعبت مع أسطورة مثل أبو تريكة"، وذلك في صفوف المنتخب الوطني. وانضم حارس مرمى المنتخب ونادي الأهلي، شريف إكرامي، إلى قائمة مناصري أبو تريكة، إذ كتب في تغريدة يقول: "لا أحد يختلف على وطنيته وإنسانيته. أمواله ومصادر دخله كتاب مفتوح للجميع وتكفي مكانتك في قلوب المصريين".
إن شعبية أبو تريكة مردّها إنجازاته الكروية، لاسيما أهدافه المسجلة في الدقائق الأخيرة، واستعداده للحديث علناً في قضايا حركت عواطف الشارع المصري، مثل نشر رسوم الكاريكاتير للنبي محمد في أوروبا، والتي اعتبرها كثير من المسلمين إساءة وكفراً، أو الحصار الإسرائيلي المصري المفروض على قطاع غزة. فقد كشف أبو تريكة عن قميص في مباراة أثناء أزمة نشر الرسوم الكاريكاتيرية يحمل عبارة "فداك يا رسول الله"، أو "تضامناً مع قطاع غزة" للتعبير عن تعاطفه مع الفلسطينيين.
كما كان أبو تريكة واضحاً في تضامنه مع ألتراس أهلاوي بعد مقتل 74 فرداً منهم خلال ما عُرف بـ"أحداث بورسعيد" عام 2012، والتي يعتقد الكثيرون أن الجيش وقوات الأمن ساهمت في حدوثها لتلقين المشجعين المتعصبين درساً.
هذا وكان أبو تريكة قد رفض آنذاك مصافحة المشير محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان يحكم البلاد أثناء المرحلة الانتقالية من مبارك إلى انتخاب مرسي. وكان أبو تريكة قد صرح آنذاك بالقول: "لم أكن سعيداً بحال البلد".
جيمس م. دورسي
ترجمة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: قنطرة 2015 ar.qantara.de
جيمس م. دورسي باحث أول في مدرسة إس راجاراتنام للدراسات الدولية في جامعة نانيانغ التقنية بسنغافورة، والمدير المساعد لمعهد ثقافة المشجعين بجامعة فورتسبورغ الألمانية. كما أنه مؤلف مدونة "العالم المتقلب لكرة القدم في الشرق الأوسط"، وسيصدر له قريباً كتاب يحمل نفس العنوان.