ما لا تريده دول الغرب من حليفتها إسرائيل في غزة
لن تهدأ التوتُّرات في المنطقة من دون وقف إطلاق النار في غزة. وهذا لأنَّ الحرب بين إسرائيل وحماس تؤثِّر بشكل مباشر أو غير مباشر على كافة الدول وقياداتها السياسية وكذلك على أربعمائة مليون شخص في الشرق الأوسط.
تبادل الضربات العسكرية على الحدود الإسرائيلية اللبنانية وإطلاق الصواريخ على السفن التجارية في البحر الأحمر والهجمات على القوات الأمريكية في العراق وسوريا والأردن وكذلك ما يتبعها من عمليات انتقامية أمريكية والهجمات الصاروخية الإسرائيلية في سوريا وعمليات القتل المستهدِف لكبار قادة الميليشيات – كلُّ هذا أعراض جانبية تؤدِّي إلى زعزعة استقرار أجزاء من المنطقة.
صحيح أنَّ الناس في سوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية ومصر وإيران يعانون في المقام الأوَّل من انعدام ضمير حُكَّامهم وعدم كفاءتهم ولكن الصراع التاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين على الأرض يُستخدم في أماكن كثيرة -وكأنه لوح إسقاط ضوئي- كذريعة لتأجيج نار الصراع – الذي لا يمكن إدارته بالتدابير الأمنية وكذلك لا يمكن حله عسكريًا.
محور المقاومة قادر على ما هو أكثر من الإرهاب. وأعضاؤه – حزب الله في لبنان وحماس في الأراضي الفلسطينية والحوثيون في اليمن والمقاومة الإسلامية في العراق والميليشيات المُوجَّهة من إيران في سوريا – يتشاركون جميعهم مع راعيتهم إيران في أيديولوجية مشتركة، أي: معاداة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وهم لا يبرِّرون بذلك الكفاح المسلح فقط بل يكتسبون أيضًا المزيد من السلطة السياسية والنفوذ الاجتماعي في البلدان المعنية. كما أنَّهم مشاركون في حكومات ويسيطرون على مناطق ويستفيدون من الظلم وفشل الدولة والصراعات المحلية. والحرب في غزة تزيد من شعبيَّتهم – في الداخل وفي المنطقة.
حماس وحزب الله وشركاؤهما فاعلون مستقلون
ومع ذلك فإنَّ حزب الله وحماس والحوثيين وشركاءهم ليسوا مُتلقِّي أوامر من طهران بل هم جهات فاعلة هجينة لها مصالحها الخاصة. أمَّا اعتبارهم مجرَّد عصابات إرهابية ضالة تعمل في خدمة إيران فيدل على قِصَر في النظر. وعلى الرغم من أنَّهم سيكونون تقريبًا غير قادرين على العمل من دون الدعم المالي والعسكري من جمهورية إيران الإسلامية فإنهم لا يطلقون كلَّ صاروخ -أو يقومون بكلِّ هجوم بطائرات مسيَّرة من دون طيار- بالتنسيق مع القيادة في طهران.
كما أنَّهم لم يكونوا مطَّلعين على خطط السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. الاستقلالية العملياتية مع تنسيق استراتيجي متزامن من قِبَل الحرس الثوري الإيراني – هذه الصيغة تُمكِّن أصحاب السلطة في طهران من زيادة الضغط على العدو المشترك إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من دون تحمُّلها أية مسؤولية عن ذلك.
لا أحد يريد حربًا واسعة النطاق ولكن رغم ذلك من الممكن لبعض بؤر التوتُّر أن تخرج عن السيطرة. كما أنَّ المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من ناحية وإيران وحلفائها من ناحية أخرى ستُكلِّف الجميع ثمنًا باهظًا ولذلك فهي ليست في مصلحة أحد. وبالرغم من استمرار التهديد والوعيد لكن الهجمات العسكرية تظل محدودة وتهدف إلى ردع العدو وإجباره على التراجع وتشير في الوقت نفسه إلى تصميم العملاء الذاتيين وقوَّتهم.
ولكن الحروب بالوكالة تنطوي على خطر التصعيد غير المقصود وذلك بسبب عدم وضوح التسلسل القيادي ولأنَّ أطراف النزاع لا تتواصل مع بعضها بشكل مباشر. ومن أجل منع حدوث ذلك يجب على الأطراف المشاركة التراجع عن إطلاق النار والتوجُّه نحو الحوار.
الهجمات الأمريكية على الحوثيين نتائجها عكسية
من الواضح أنَّ الهجمات الصاروخية الأمريكية والبريطانية على مواقع الحوثيين في اليمن لا تجعل الشحن في البحر الأحمر أكثر أمانًا -علماً بأن التصدِّي للطائرات المُسيَّرة يكفي من أجل تأمين البحر- بل إن تلك الهجمات تحوِّل الحوثيين إلى أبطال في الحرب من أجل الفلسطينيين وضدَّ الإمبريالية الغربية. كذلك فإنَّ محاولات إسرائيل الرامية إلى إبعاد حزب الله بالقوة العسكرية عن الحدود –حتى يتمكَّن عشرات الآلاف من الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم من العودة إلى بيوتهم والعيش في أمان– هي محاولات نتائجها عكسية.
صحيح أنَّ حزب الله لم يعد قادرًا على إطلاق أسلحة موجَّهة دقيقة على البلدات الحدودية من المنطقة الواقعة شمال نهر الليطاني على بعد ثلاثين كيلومترًا عن الحدود لكنه لا يزال قادرًا على الوصول بصواريخه إلى أهداف في داخل إسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ التهديدات الإسرائيلية تزيد من نسبة التأييد الشعبي لحزب الله. فقد هرب في لبنان أيضًا عشرات الآلاف من الجنوب وهم يعتبرون إسرائيل هي المعتدية.
وفي ضوء الهجوم الإسرائيلي الوشيك ينظر الكثيرون إلى حزب الله باعتباره مقاومة ضرورية، ومنهم حتى الذين لا يوجد لديهم أي شيء مشترك مع حزب الله الشيعي ويطالبون بنزع سلاحه في الأوقات الأكثر هدوءًا. وبالرغم من أنَّ الجهود الدبلوماسية واعدةٌ أكثر بالنجاح فإنها ستذهب أدراج الرياح من دون تحقيق أي تقدُّم في غزة، وذلك لأنَّ حزب الله غير مستعد للتفاوض على انسحابه إلَّا عندما توقف إسرائيل هجماتها على غزة.
على أوروبا محاورة حماس بدلا من شيطنتها
يرى الخبير الأوروبي ماتيا توالدو أن دول الاتحاد الأوروبي قدمت دعما ماديا وسياسيا لوضع ساهم في بقاء الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وأن عدم تدخل الاتحاد الأوروبي تدخلا فاعلا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يُبقِي الأوضاع في الشرق الأوسط دون أية حلحلة بشكل لا يخدم مصلحة أوروبا. ويشدد على أن على الاتحاد الأوروبي التحرك والسعي إلى تحقيق حل الدولتين.
نتنياهو وشركاؤه: عقبة في طريق السلام
ونتنياهو بحاجة إلى الوضع متأزِّمًا من أجل بقائه في السلطة. لقد كان رئيس وزراء إسرائيل على استعداد لإلغاء استقلال القضاء من أجل إنقاذ حياته السياسية، ولذلك تَشاركَ مع متطرِّفين يمينيين استخدموا قطاعات من الجيش الإسرائيلي من أجل فرض مخططاتهم الاستيطانية في الضفة الغربية وضَمِّها، مما ساهم في فشل القوات الأمنية الإسرائيلية في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. وهذه الأخطاء السياسية والعسكرية الاستراتيجية سيبدأ تقييمهما بمجرَّد انتهاء الحرب. هذا وقد بدأ معظم الإسرائيليين الآن يطالبون باستقالة نتنياهو.
ولهذا السبب فإنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي لا توجد لديه أية مصلحة في إنهاء الحرب بسرعة. فهو يحتاج إلى حالة تهديد دائمة من أجل استعادة صورته كسيِّد الأمن. ويَعِدُ بعدم التخلي عن السيطرة الأمنية على غزة وبمنع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وبإنهاء قصف حزب الله في الشمال، حتى وإن أدَّى ذلك إلى مواجهة مفتوحة مع لبنان.
وبدلًا من تقديم تنازلات من أجل تحرير المزيد من الرهائن الإسرائيليين فإنَّ نتنياهو وأعضاء حكومته اليمينية المتطرِّفة يعملون على تأجيج نيران الصراع من أجل فرض أوهامهم الخاصة في السلطة. وهم ليسوا شركاء بل عقبة في طريق السلام.
فرصة ذهبية لحركة المستوطنين
إنَّ مستوطني إسرائيل وقومييها المتطرِّفين جادون فيما يقولون وما يحدث في غزة يخدم أهدافهم. لقد أدى هجوم حماس إلى تعزيز موقف المتطرِّفين اليمينيين في إسرائيل والذين تنعكس بعض آرائهم العنصرية لدى جمهور واسع. والحرب في غزة تمثِّل بالنسبة لحركة المستوطنين فرصةً ذهبية من أجل تشجيع رؤيتهم الخاصة بإسرائيل الكبرى: الاستيطان الدائم في الضفة الغربية وقطاع غزة والذي يرتبط بعدم المساواة المؤسَّساتية في معاملة الفلسطينيين (المعروفة في القانون الدولي باسم الفصل العنصري) أو كذلك تهجيرهم.
وهذه الخطط المصرَّح بها بشكل علني تتعارض مع القانون الدولي ومع قرارات الأمم المتحدة ومع ما تعتبره بقية دول العالم -بما فيها حلفاء إسرائيل المقرَّبون- حلًّا للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ولكن مع ذلك لا توجد أية مقاومة تستحق الذكر. فالأمريكيون والأوروبيون يُكرِّرون فقط ما لا يجوز حدوثه في غزة من دون اعترافهم بأنَّ هذا هو بالضبط ما تريده الحرب الإسرائيلية. فحلفاء إسرائيل لا يريدون تغييرات في الأراضي الجغرافية، لكن ماذا يحدث في الواقع؟ والإجابة هي أن الجيش الإسرائيلي يقيم جنوب مدينة غزة طريقًا عسكريًا يصل بين الشرق والغرب ويقسم المنطقة ليُنشئ منطقة عازلة تمتد على طول الحدود ومن المقرَّر أن تبلغ مساحتها ضعف ما كانت عليه قبل ذلك. وبحسب القناة 12 التلفزيونية الإسرائيلية فقد هدم الجيش الإسرائيلي ألفًا ومائة مبنى من المباني البالغ عددها هناك ألفين وثمانيمائة وخمسين مبنى، وهذا يؤثِّر أيضًا على المساحة المستخدمة للزراعة.
وحلفاء إسرائيل لا يريدون تهجيرا دائما للسكَّان المحليين، لكن ماذا يحدث في الواقع؟ والإجابة هي أن عدد النازحين داخل قطاع غزة أصبح مليونًا وتسعمائة ألف شخص كما أنَّ تدمير المساكن والبنية التحتية يزيد من صعوبة عودتهم ووجودهم المستقبلي، علمًا بأن أكثر من نصف المباني السكنية والمستشفيات والجامعات والمدارس والمساجد والكنائس مدمَّرة أو متضرِّرة.
خطة نتنياهو لليوم التالي بعد انتهاء حرب غزة: احتلال جديد
وحلفاء إسرائيل لا يريدون احتلالًا إسرائيليًا واستيطانًا في غزة، لكن ماذا يحدث في الواقع؟ والإجابة هي أنَّ خطة نتنياهو -لليوم التالي بعد الحرب- صحيحٌ أنها لا تنص على بناء مستوطنات ولكنها تنص على وجودٍ عسكري دائم. وبحسب هذه الخطة فمن المفترض أن يحتفظ الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة "بحرِّية عملياتية غير محدودة" وأن يسيطر على الأمن في جميع المناطق الواقعة غرب نهر الأردن، أي على جميع المنافذ برًا وبحرًا وجوًا. ويجب جعل الفلسطينيين "منزوعي السلاح" وكذلك "منزوعي التطرُّف" وأن يتولوا إدارة أنفسهم ذاتيًا "بقدر الإمكان". وهم يعرفون بالفعل هذا الوضع المعروف باسم احتلال.
لقد صدرت الخطط الموضوعة بشكل أكثر تحديدًا من أجل غزة ما بعد الحرب من منظمات مقرَّبة من المستوطنين وشركات عقارية: بناء فيلات على الشاطئ و"تشجيع الهجرة الطوعية" بهدف تشتيت سكَّان غزة الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، أي تدمير وجودهم كمجموعة (وهذا يثبت بموجب القانون الدولي وقوع جريمة إبادة جماعية).
طالبت محكمة العدل الدولية الحكومة الإسرائيلية بمنع الدعوات إلى التحريض والكراهية والتهجير وحماية الأهالي في غزة من ذلك؛ في حين دعا -في مؤتمر "انتصار إسرائيل" الذي عُقد في القدس- أحد عشر وزيرًا من هذه الحكومة إلى إعادة استيطان قطاع غزة. لقد حان الوقت من أجل ربط الدعم المقدَّم لهذه الحكومة بشروط.
إنكار الواقع من كلا الطرفين
إنَّ محاربة حماس بالوسائل العسكرية فقط تؤدِّي إلى تعزيز قوتها سياسيًا. فقد أصبحت حركة حماس الآن أكثر شعبية مما كانت عليه قبل السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 – ليس بالضرورة في غزة ولكن في الضفة الغربية تضاعفت معدلات تأييدها ثلاثة أضعاف. صحيح أنَّ الكثيرين لا يشاركون حماس أيديولوجيَّتها الإسلامية ولكنهم يحترمونها باعتبارها "حركة مقاومة".
وعلى الرغم من رفض الناس في الشرق الأوسط وقوع جرائم مثل التي [نُقِل أنها] وقعت في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 -عنف جنسي وذبح مدنيين واختطاف نساء وأطفال– فإنهم يحتفلون بحماس باعتبارها الطرف الفاعل الوحيد الذي فعل شيئًا من أجل القضية الفلسطينية – حتى وإن كان مجرَّد لفت الانتباه الدولي إلى معاناة الشعب الفلسطيني. أمَّا الفظائع المرتكبة في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 فيتم التقليل من شأنها أو رفضها باعتبارها أخبارًا كاذبة.
لقد بلغ إنكار الواقع حدًا مخيفًا على كلا الطرفين: ففي العالم العربي يتجاهل الناس وينكرون مذبحة السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023؛ وفي إسرائيل لا يريدون رؤية معاناة المدنيين في غزة وتختلط لديهم المخاوف الوجودية مع الرغبة في الانتقام. وكلٌّ منهما يُجرِّد الآخر من إنسانيَّته كوسيلة تلحق به أكبر قدر من الضرر. ولكن هذا لا يؤدِّي إلى خلق أي شكل من الأمن بل يؤدِّي إلى المزيد من الإرهاب والعنف.
"يجب على العالم إيجاد طريقة للتعامل مع حماس"
لقد ثبت بعد أشهر من الحرب أنَّ هدف القضاء كليًا على حماس كميليشيا مسلحة يعتبر هدفًا غير واقعي. فحتى لو مات معظم المقاتلين في غزة ودُمِّرَت جميع الأنفاق والصواريخ فإنَّ مَنْ يتبقَّى من المؤيِّدين سيُعيدون تشكيل صفوفهم ويجدون مقاتلين جددًا.
وهم لا يحتاجون إلى الكثير حتى يُطلق عليهم اسم "مُخَرِّبين" ينسفون أي جهد من أجل إقامة نظام ما بعد الحرب. ولهذا السبب وحده يبدو من المعقول استخدام القنوات المتاحة من أجل التفاوض على الرهائن مع قيادة حماس في الدوحة وإشراك البراغماتيين داخل حماس بشكل غير مباشر.
وكذلك ستبقى حماس موجودة كحزب سياسي وحركة اجتماعية وأيديولوجية. ولهذا السبب يجب على العالم أن يجد طريقة للتعامل معها كما فعل في السابق وتعامل مع حركة فتح بزعامة ياسر عرفات – التي تحوَّلت من حركة إرهابيين إلى شريكة في المفاوضات عندما كان يوجد أمل في التوصُّل إلى حلّ سياسي للصراع ضمن إطار عملية أوسلو للسلام.
وفي هذا الصدد تُظهر الوثائق الحديثة وجود سياسيين في داخل حماس مستعدِّين للمضي في مثل هذا التطوُّر. وعلى العكس من ميثاق حماس التأسيسي الذي يعود إلى عام 1988 لم تعد توجد في وثيقة المبادئ والسياسات العاملة لحركة حماس المعلن عنها في عام 2017 أيةُ إشارات معادية لليهود؛ وقد أعلنت حركة حماس في هذه الوثيقة استعدادها لقبول دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967. وذكرت فيها أنَّها لا تخوض حربًا على اليهود، بل تحارب الاحتلال.
وقد نشرت حماس في شهر كانون الثاني/يناير 2024 وثيقة مكوَّنة من ست عشرة صفحة شرحت فيها أسباب هجومها الدامي في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. وهذه الوثيقة تحمل عنوان "هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟" وهي تستحق الاهتمام – خاصةً عند قرأتها باعتبارها دعاية سياسية.
شيطنة حماس تزيد من قوتها
ويرِدُ في هذه الوثيقة أنَّ "عملية طوفان الأقصى استهدفت المواقع العسكرية الإسرائيلية، وسعت إلى أسر جنود العدو ومقاتليه من أجل إطلاق سراح الآلاف من الأسرى من خلال عملية تبادل"، وأنَّ "تجنُّب استهداف المدنيين وخصوصًا النساء والأطفال وكبار السن هو التزام ديني وأخلاقي يتربَّى عليه أبناء حماس". وتضيف أنَّ استهداف الضحايا المدنيين "غير مقصود (…) وقد حدث بعض الخلل أثناء تنفيذ عملية طوفان الأقصى بسبب انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بشكل كامل وسريع". إنَّ ما يبدو هنا وكأنَّه استهزاء بالضحايا يتوافق مع الرواية المنتشرة في الشرق الأوسط.
هذا وقد تناولت حماس في هذه الوثيقة التحقيقات والتصريحات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية في لاهاي، وبذلك فقد تحدَّثت بلغة الغرب. وكتبت موجِّهة خطابها إلى اليسار المناهض للاستعمار وإلى الجنوب العالمي أنَّها "لا تخوض صراعًا مع اليهود لكونهم يهودًا؛ وإنَّما تخوض صراعًا ضدَّ الصهاينة لأنَّهم محتلون يعتدون على شعبنا وأرضنا (…) وفي المقابل فإنَّ الصهاينة هم الذين يتبنُّون دعاوى دينية ويُصرُّون على فرض الطبيعة اليهودية لـ’إسرائيل‘" .
وتُبيِّن هذه الوثيقة أنَّ أعضاء قيادة حماس يفكِّرون بشكل استراتيجي، وسيحاولون تحويل شعبيَّتهم الحالية إلى نفوذ سياسي، وأنَّ أي طريق إلى حلّ القضية الفلسطينية يجب ألَّا يمر من دونهم. علمًا بأنَّ المفاوضات بين فتح وحماس تجري بالفعل ومن الممكن أن تنضم حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية على المدى المتوسِّط.
صحيح أنَّ حماس قد لا تشارك في حكومة تكنوقراط فلسطينية انتقالية ولكن يجب أن توافق عليها. أمَّا الحكم رغم أنفها فلن ينجح وذلك لأنَّ العمل على إقصاء حماس وشيطنتها لن يؤدِّي إلَّا إلى زيادة قوتها. وقد يكون هذا الاستنتاج مريرًا ولكنه أمر حتمي لا مناص منه وحتى بالنسبة للأمريكيين والأوروبيين.
حلُّ الدولتين مات ولكن من دون السيادة الفلسطينية لا يوجد مستقبل لغزة ولا يوجد تطبيع علاقات بين العرب وإسرائيل. إنَّ انسحاب الجيش الإسرائيلي وحركة البضائع والأشخاص بحرِّية ولكن تحت مراقبة دولية يشكِّلان ضرورة أساسية من أجل التوصُّل إلى حلّ في غزة يضمن للفلسطينيين الحياة بكرامة وللإسرائيليين الأمن.
وذلك لأنَّ أيًا من الدول العربية لن تتدخَّل في قطاع غزة مع استمرار السيطرة الإسرائيلة العسكرية الدائمة عليه. ولكن مع ذلك فإنَّ الدعم المالي والسياسي والاقتصادي وربَّما حتى العسكري من الدول المجاورة أمر ضروري ولا غنى عنه من أجل إعادة إحياء غزة.
ولهذا السبب فإنَّ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يسافر بانتظام إلى المملكة العربية السعودية وقطر والأردن ومصر قبل إجرائه محادثات في تل أبيب ورام الله. ويحاول إغراء الحكومة الإسرائلية بعلاقات أفضل مع دول الجوار العربية لينتزع منها التزامها بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. وبلينكن يعرف أنَّ المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية باتت تصرُّ –بعكس ما كانت تفعل في السابق– على حقِّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم من أجل تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
وبما أنَّ هذا غير متوقع فيجب –على الأقل– أن تَعِد إسرائيل بفعله وأن تروِّج له الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. وإذا استمرَّت الحكومة الإسرائيلية في حرمانها الفلسطينيين من حقِّهم في السيادة الوطنية فيجب عندئذ على الأمريكيين والأوروبيين أن يحذوا حذو الدول البالغ عددها أكثر من مائة دولة اعترفت فعلًا بفلسطين كدولة. وعندئذ لن يكون الموقف الأحادي الجانب هو الاعتراف العالمي بدولة فلسطين – بل إنكار إسرائيل قيام دولة فلسطينية.
وفي نهاية المطاف لن يتحقَّق حلُّ الدولتين الذي تصوَّره اتفاق أوسلو في عام 1993، وذلك لأنَّ معظم المستوطنين الإسرائيليين البالغ عددهم الآن سبعمائة ألف مستوطن في الضفة الغربية والقدس الشرقية لن يختفوا في الهواء ولن يذهبوا إلى أي مكان. ولهذا السبب يبدو أنَّ الاحتمال الأكثر واقعية هو إقامة اتحاد كونفدرالي مكوَّن من دولتين – وهو اقتراح يُناقَش منذ عدة سنين في دوائر المختصين والخبراء ومن شأنه أن يحلّ المشكلتين الكُبرَيين، أي: استمرار وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية وحقّ عودة الفلسطينيين.
ومن شأن ذلك أن يسمح بوجود دولة إسرائيلية ودولة فلسطينية (داخل حدود عام 1967 تقريبًا) ويستطيع مواطنو كلِّ منهما -مثل مواطني دول الاتحاد الأوروبي- العيش في الدولة الأخرى ولكن من دون حصولهم على جنسيَّتها. ويظل بذلك المستوطن الإسرائيلي مواطنًا إسرائيليًا ويُصوِّت في الانتخابات الإسرائيلية حتى وإن كان يعيش في الضفة الغربية ويخضع للقوانين الموجودة فيها.
ويصبح الفلسطيني القادم من برلين أو بيت لحم مواطنًا فلسطينيًا ويُصوِّت في الانتخابات البرلمانية في رام الله حتى وإن انتقل ليعيش في حيفا أو في تل أبيب. ومن شأن قوانين الهجرة تنظيم الهجرة على كلا الجانبين. وبهذا ستبقى إسرائيل دولة يهودية وفلسطين دولة عربية – ومع ذلك يستطيع فيهما الناس العيش أينما يريدون أو البقاء حيثما يعيشون.
وفي الواقع من الصعب تصوُّر مثل هذا الحلِّ في ظلّ الوضع الحالي مع هذا المستوى الكبير للغاية من انعدام الثقة والخوف والكراهية على كلا الجانبين. ولكن من دون وجود رؤية لا يمكن أن يوجد تقارب. ومن دون التقارب لا يجود سوى المزيد من العنف والتصعيد – في جميع أنحاء المنطقة.
كريستين هيلبيرغ
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024