براعة الرغبة الجسدية في نقل الواقع السياسي والاجتماعي
تتألف رواية «نهاية الصحراء» من ثلاثة أجزاء: «قرط من فضّة» و«أطياف» و«نهاية الصحراء». ينسج السرد حكاية الأحداث من تناوب سبعة أصوات، تجمعهم علاقة بـ «فندق الصحراء»، المكان الذي عملت فيه المغنية المقتولة زكية، الملقبة بـ «زازا»، والتي عُثر على جثتها في خريف عام 1988 في منطقة نائية تُدعى المرج.
وبالتوازي مع محاولة الوصول للمتورطين في جريمة قتلها يمتد خط سردي يتناول بحث «إبراهيم درّاس» عن قبر والده الذي شارك في حرب الجزائر. من خلال مسار أحداث هذه الرواية الغامضة والمثيرة يستعرض خطيبي الحياة الاجتماعية والسياسية والعلاقات الجندرية في بلده بعد الاستقلال، من خلال شخصيات تمثل مجموعة واسعة من الطبقات الاجتماعية والخلفيات الثقافية المتنوعة في المجتمع.
"الجزائر صحراء قاحلة بالنسبة للأدب العربي"
حصل المؤلف الجزائري سعيد خطيبي في أبوظبي على جائزة الشيخ زايد المرموقة لِـ "فرع المؤلف الشاب 2023" عن روايته البوليسية التاريخية "نهاية الصحراء". الصحفية الألمانية كلاوديا مينده حاورته لموقع قنطرة.
الجسد والجمال والسلطة الثقافية
تستخدم "نهاية الصحراء" اللغة البصرية لتعريف القارئ بجوانب معيَّنة من الشخصيات وكيفية تفاعل بعضها مع بعض ومع البيئة المحيطة بها، إذ تظهر تمثيلات الجسد في «نهاية الصحراء»، سواء كان عارياً أو مستوراً، أو حتى من حيث الحجم أو الطول أو اللون أو العمر أو الجنس، في تنويع الطرق التي يمكن بها تصور الجسم وإدراكه في العمل الأدبي. فتصف المغنية «الشيخة ذهبية»، أوّل لقاء لها بنورة المحامية قائلة: «تنظر بفضول إلى يدي المغطاتين بقفازين من الدانتيل، شفتي المصبوغتين بلون زهري، مع أحمر خدود، ورموشي مرسومة بلون غامق. شبّهت صوتها بصوت ابنة عمي مليكة الخيّاطة، التي حازت سمعة حسنة بين العرائس وعلّمتني كيف أحافظ على نعومة بشرتي بخلطات أعشاب». بينما تصف نورة كيف تعرف بشير بزكية، فتقول: «سحرته بجمال وجهها وجسدها الممشوق، فخطا خلفها مثل فراشة تتبع النّور. لقد رجّح دائما جمال الجسد على جمال الرّوح».
يتبع السّرد هذا التصور فنجد –مثلاً– أن إبراهيم يستحضر علاقته بجسد المحامية نورة، والتي تجمعه بها علاقة، فيقول: «تمنيت أن تخفض وزنها، وتتلوّن عيناها بالأزرق بدل البني، فقد مللت ملامح نسوة هذه المدينة، المتشابهات، كما لو أنهن خرجن من رحم واحدة». ويصوّر لنا الكاتب كيف تشكّلت معايير الجمال في المجتمع الحديث وماذا يعني أن تندمج المرأة في النموذج الاستهلاكي السائد، إذ يستفتح إبراهيم مشهد تعرفه بنورة باستحضار شخصية داليدا -الغنية عن التّعريف- فيقول: «تعرفت إلى نورة، قبل انتحار داليدا بيوم واحد». ثم تستحضر الرواية داليدا مرة أخرى من خلال شخصية الشيخة ذهبية في الإشارة إلى إعادة تشكيل جسد النساء بحسب رغبة المجتمع الاستهلاكي (الرجال) من جهة، واستخدام الجسد كأداة نسوية للهيمنة على الرجال والكسب المادي وتمكين المرأة من جهة أخرى، في هذا الجو الذي يقدِّر أجساد النساء قبل أرواحهن وعقولهن. تقول ذهبية: «بعدما فشلت في امتحان البالية الوطني. عملت في أيامي الأولى في المغسلة، ثم انتقلت إلى المرقص حال افتتاحه. صبغت شعري وتكنيت بالشيخة ذهبية...ألم تصبغ داليدا شعرها بالأشقر فتضاعف عدد محبّيها؟».
كمال، موظف الاستقبال في الفندق، يصف توتر علاقته مع نورة، التي واعدها لفترة وجيزة أثناء المراهقة: «ظنت أنني بخست جمالها، فانغمَّ قلبها، لكنها فظنت من زميلة أخرى (واعدتها هي الأخرى) إلى أنني تخليّت عنها، كي لا أغيظ صديقي بشير، فمن المعيب أن يختلى الرجل بشقيقة أو قريبة صديق من دون عقد شرعي».
تاريخ فرانكفوني إسلامي لأول مرة في قصص الأنوثة والنساء
سيدة الأدب المغاربي الفرنكوفوني وقدوة أجيال من الكاتبات في العالم العربي، الكاتبة والمؤرخة والمخرجة السينمائية الجزائرية آسيا جبار كانت حتى وقت قريب قبل وفاتها المرشحة الأوفر حظا لنيل جائزة نوبل للأداب. توفيت الجمعة 6 فبراير/ شباط عن عمر يناهز 78 سنة. ريجينا كايل ساقافه تسلط الضوء لموقع قنطرة في رثائها التالي على رائدة الرواية المغاربية العالمية.
وفي تحدٍّ للصورة النمطية السَّائدة التي تصور العلاقات الحميمية كعلاقات بغرض الإنجاب أو علاقات يتوحد فيها جسد المحبين، أواغتصاب للجسد، أو علاقات في مقابل المال، نرى أن السَّرد في «نهاية الصحراء»، يقدِّم العلاقات الجسدية عموماً، فيما عدا علاقة بشير بزازا كعلاقات جسدية بيولوجية مبتذلة غير مرتبطة بالعشق والوله، لكنها جاءت تعبيراً عن جانب اللذة، ممثلة في الرغبات الزائلة المحصورة بالجسد.
وفي تحدٍّ ثانٍ للصورة النمطية الشائعة في الأدب والإعلام التي يقتصر فيها الاهتمام بجمال الجسد على الأنثى وتركز النظر على جسد المرأة تنقل "نهاية الصحراء" زاوية التحديق إلى جسد الرجل فتصور الرجل الذي يهتم بجمال شعره وجلده وهندامه ويتفاخر به. كما يصف الكاتب شخصيات الرجال من خلال ملامح بشرتهم ولون عيونهم وكثافة شعرهم. فيظهر جسد الرجل هنا موضوع الرغبة والاشتهاء من قبل الأنثى وليس العكس. فتروي لنا أم زازا انجذاب ابنتها إلى رجل اسمه بنسالم، قائلة: «أعجبتها نعومة شعره وبريق عينيه السوداوين». أما نورة المحامية والتي لم تنسَ حبها الأول لكمال، وتقارن جسده بجسد إبراهيم فتقول: «كمال من النّوع الذي يُحافظ على جسده حتى بعد الخمسين، متخيلة بطنه المشدود تحت قميصه الأبيض».
أما "إبراهيم" الذي يدري قصوراً في جمال ملامح وجهه يقول: «لا أعيب على نفسي سوى عينييّ الغائرتين» ولكنه وهو الحاصل على شهادة جامعية وتعلم العزف والغناء لا يتذكر هذه المؤهلات حين يرصد مواطن جماله بل يتذكر قوته الجسدية. يقول إبراهيم: «جمال الرّجل في بأسه لا في شكل عينيه». إبراهيم هنا يفتخر ببنية جسدية قوية تتناسب مع مفهوم "الرجولة" في محيطه الاجتماعي.
الجسد وإشكالية القوة
ينقلنا السَّرد إلى نقطة أخرى، حيث يتّخذ الجسد دوراً محورياً، ويظهر الجسد القوي الذي يقاوم العنف أو يكون مسبباً له في هذه البيئة الاجتماعية. يتجلَّى هذا بوضوح في استحضار ملامح الرجال الجسدية عند مقارنة بعضهم ببعض خصوصاً في أوقات الحاجة أو الشجار. على سبيل المثال، يُقدم "بوستة"، الذي يعمل في سوق تراباندو (السوق السوداء) في بيع وشراء الحشيش، نفسه بطريقة ودية مع "إبراهيم"، الذي يستغرب سلوك "بوستة" ويتساءل عن دوافعه، لكن "بوستة" يرد بسخرية: «من يحتاج إلى قصير قامة لا يظهر في وجهه سوى شفتيه الغلظتين». أما "كمال" الشاب القوي الطويل، فيتذكر ما حدث لـ"فوزي الحوذي" المثلي على يديه، حيث يستخدم السرد الجسد لوصف المشهد، قائلًا: «لم أحلق ذقني، ولم يتسنَّ لي أن أنظِّف أسناني، مستحضراً صورة فوزي بوجه ملطخ دماً، بعدما هجم عليه شاب بطول مترين».
تذكرنا رواية "نهاية الصحراء" بأن هناك سلطة أعلى تستخدم الجسد لإسكات وقمع من خالفها وهي سلطة الدولة التي تقوم بسجن الجسد لمعاقبته وإعادة توجيهه. هنا يعتبر ما حدث لـ "ميمون" -المناضل الثوري السابق- مثالًا بارزًا. فقد كانت تجربة السجن وسيلة لتغيير مواقفه وآرائه السياسية المعارضة للحكومة الحالية بعد ما عاناه في المعتقل. على الرغم من ذلك، نجح ميمون في التحايل على سلطة الدولة القمعية، حيث قام بمزاولة تجارة أدوية مهربة بشكل سري، مما ساهم بدوره في زيادة وطأة الفساد وتهميش طبقات المجتمع الأكثر تهميشاً.
يأخذنا بشير إلى مشهد السجن مرة أخرى، حيث يتعرض الجسد المتمرِّد للمعاقبة والتطويع. ففور وضع "بشير" في الزنزانة بعد اعتقاله واتهامه بمعتقل زكية، قاموا بقص شعره كأولى عتبات الإذلال والعقاب، كما يسرد بشير الظروف القاسية في السجن فمن حاجة المساجين الصعبة إلى أماكن كافية للاستحمام إلى صعوبة قضاء الحاجة وتناول الطعام للحفاظ على صحتهم. وبصورة ولغة بليغه يُذكّرنا الكاتب بأن السجن والتقييد قد لا يكونان مقتصرين على جسد مقيد في مكان مغلق فحسب، بل يمكن أن يتجلى في الفضاء العام أيضاً، بمثل مدرسة تقيِّد الفكر، كما يشير إبراهيم الذي يشعر بالخيبة لما حدث لبلاده بعد تضحية العديد من الأرواح من أجل تحريرها. يقول إبراهيم: "تخيلت امتعاض أبي في مرقده، وأنا أخرج من السجن، الذي يشبه باب المدرسة الثانوية".
سأمٌ جزائري من أكل اللوبيا الحمراء طعام الفقراء
سبعة أفلام جزائرية حديثة. عرضتها دار للسينما في العاصمة الألمانية. بدأ من خلالها جيل سينمائي جزائري شاب يتناول ماضي الجزائر العنيف بالتنقيب والمعالجة. ويواجه تجارب تاريخ الجزائر بالتلميحات وحتى الفكاهة: من عصر الاستعمار وضحايا حرب التحرير، حتى عشرية التسعينيات السوداء: حرب أهلية ما زالت ذكراها حاضرة. كريستوفر ريش التقى بمخرجَيْن منهم وأيضا بمخرجة. ويسلط الضوء على أفلامهم لموقع قنطرة.
ومع ذلك يعبر "إبراهيم" -الذي يعتبر رمزاً للمثقف المهمش- عن أسفه وهزيمته أمام إصرار أمه على تربية ابنها "خميسي" بما يتلاءم مع هذه البيئة الاجتماعية والثقافة السائدة. تمنى إبراهيم لأخيه أن يصبح عازفاً موسيقياً أو طبيباً، لكنه صار عتالاً. يقول ابراهيم واصفاً ظروفهم التي شكلت مستقبل أخيه قائلا : "طاف بين مهن تستدعى عضلات وذراعين طويلتيتن لا عقلاً". يستطرد إبراهيم قائلاً: "أتخيل أحيانا لو أتيح لي تربية شقيقي الصغير، لجعلت منه عازفاً أو مغنيا، لكنها استفردت به، تمنيته طبيبا فصار عتالاً في الأيام العادية. ملاكماً في أوقات الفراغ "هذه الصورة التراجيدية التي صورت هزيمة العقل والروح ممثلا في شخصية "إبراهيم" في مقابل انتصار البنية الجسدية حتى وإن هذه الصورة تحتفي بالجسد وتحرره من قمعه في مجتمع بطريركي فهي كذلك توحي بالانحدار وتردي الأوضاع الاجتماعية والثقافية وغياب ثقافة الحوار والتعرف على الإنسان أولا والمواطن ثانيا.
الجنس في أدب الكاتبات العربيات.....هُتاف الجسد أم صوت الإبداع؟
هل تكتب المرأة عن تجربة جنسية انطلاقا من تجربة شخصية عاشتها أم أنه مجرد خيال لغوي. وهل ينبغي الحكم على الأدب حكما أخلاقيا أم ينبغي أن يتوقف النقد عند محتوى الكتاب؟ ريم نجمي تحدثت إلى كاتبات عربيات عن الحكم على أعمالهن.
الجسد و"معرفة" الآخر والمستقبل
تبرز رواية "نهاية الصحراء" بالتقديم لشخصياتها الروائية من خلال وصف المظهر الخارجي حتى مع ذكر أسمائهم. يبدو أن هذا التركيز على الملامح الخارجية يحمل في طياته رمزية عميقة حول التنوع والهوية الفردية التي تسعى الدولة إلى تهميشها. ومن جهة أخرى ينبغي أن نلاحظ أن هذا الوصف يحمل أيضاً رمزية أخرى هامة، إذ يبرز عجزنا عن فهم الآخرين والتواصل معهم من خلال التركيز فقط على ملامحهم الخارجية. فعندما نلتقي بشخصيات مثل "محشوش النيف"، و"فرمسيان ذو الوجه الثمين"، و"حسنية بعيونها الواسعة"، و"بشير بمنخارين عريضين"، والبقال الثمين والعسكري الذي يُصوَّر بأنه "شخص بوجه عريض"، والسعدي الذي يصفه بريهوني بأن له حَوَلاً في عينيه، ومخلوف الإلبط الذي يُصوَّر بأن لديه منخارين أقل اتساعاً من منخري ابنه، ورجل يتساقط شعره من المقدمة، فإننا نرى أن هذا الوصف الظاهري يقتصر على الجانب الخارجي فقط من هوياتهم ولا يكشف عن العمق النفسي لشخصياتهم. من هنا يبدو لي أن هذه اللغة السردية تدعو إلى الحاجة الماسة للتعرف على الآخر والتواصل معه بما في ذلك فهم الجوانب الداخلية لشخصياته، فإذا لم نتغلب على القسوة الظاهرية للظروف ونتعمق في فهم بعضنا لِبعض فسنبقى محصورين في الحوارات الداخلية التي قد تعيق تطور العلاقات الإنسانية وتتسبب في العزلة واليأس.
وبذلك فقد استخدم الكاتب الجسد ببراعة لنقل صورة رمزية عن الوضع السياسي والاجتماعي، حيث تنتهي الرواية بحل لغز مقتل المغنية والتي استطاعت أن تقاوم "حسينة" فقام "القاتل"ممثلا للعنف الجسدي بإغتيالها وبداية انتفاضة ضد الظروف الاقتصادية والسياسية في البلاد يتبعها فترات من العنف يعاني منها كل فئات المجتمع. وهنا يظل جسد الجزائري وسيلة للتعبير عن التحدي والنضال، دون أن يدرك إبراهيم الدراس موقع جسد والده الذي يرمز إلى الثورة والنضال الحقيقي، وربما يكون ذلك إشارة رمزية إلى أن المستقبل لا ينبغي أن يكون مرتبطاً بالجسد المدفون تحت التراب، مهما كانت إسهاماته في الماضي.
ختامًا، يمكن الزعم أن الجسد في رواية "نهاية الصحراء" تم سرده بأسلوب يتجاوز اختزال الجسد في صورة اللذة والرغبة الجنسية، ليُركز على مركزية الجسد كمنتج اجتماعي وسياسي. والسرد الواقعي لدى خطيبي قد ظل الجسد فيه متأرجحاً بين الجسد المقموع و" اللين" المفعول به، والذي يتم توجيهه وقمعه من قبل السلطة كما قدمته فلسفة ميشيل فوكو، والجسد القادر على مقاومة الخطابات والسلطة كما تراها الفيلسوفة النسوية جوديث بتلر.
أماني الصيفي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024