قطع التمويل الألماني عن منظمات حقوقية فلسطينية

 صورة من: Majdi Mohammed/AP/ picture alliance  - "مؤسَّسة الحق" الفلسطينية للدفاع عن حقوق الإنسان. Die palästinensische Menschenrechtsorganisation Al-Haq
تُعتبَر "مؤسَّسة الحق" الفلسطينية للدفاع عن حقوق الإنسان واحدة من ست منظمات غير حكومية فلسطينية صنَّفتها إسرائيل في عام 2021 كمنظمات إرهابية. صورة من: Majdi Mohammed/AP/ picture alliance

قلَّصت ألمانيا جزءًا مهمًا من تعاونها مع المجتمع المدني الفلسطيني رغم عدم وجود أية انتهاكات، وهو قرار يكمن وراءه أيضا خلاف قديم بين إسرائيل وألمانيا. توضيحات الصحفي الألماني كريستيان مايَر من رام الله وتل أبيب.

الكاتبة ، الكاتب: Christian Meier

خيبة أمل وأحيانًا أيضًا عدم تفهُّم وغضب. هذه هي ردود الفعل المنتشرة في المجتمع المدني الفلسطيني في الأسابيع الأخيرة تجاه ألمانيا. ويعود سبب ذلك إلى أنَّ الحكومة الألمانية الاتحادية وقفت وبشدة إلى جانب إسرائيل بعد هجوم حماس الدامي في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 واتَّخذت -بحسب وجهة نظر الكثيرين من الفلسطينيين- موقفًا أحادي الجانب والتزمت الصمت على الجرائم الإسرائيلية في حرب غزة.

ويَنْصَبُّ هذا الاستياء بشكل أكثر تحديدًا على مؤسَّسات التعاون التنموي الألمانية EZ، مع أنَّ الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية BMZ كانت قد أعلنت قبل أسابيع قليلة فقط عن استئناف التمويل؛ وذلك بعدما كانت الوزيرة سفينيا شولتسه قد أوقفته مباشرة بعد السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 بهدف التأكُّد من عدم استفادة جماعات تصنفها ألمانيا منظمات إرهابية -مثل حركة حماس وغيرها- من الأموال الألمانية. ثم جاء في بيان صحفي صدر في الثالث عشر من كانون الأوَّل/ديسمبر 2023 أنَّ المراجعة لم تؤدِّ إلى أي دليل يدل على استخدام هذا التمويل لأغراض أخرى. وبحسب البيان فقد "أثبتت آليات الرقابة الصارمة لدى الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية أنَّها قوية".

بيد أنَّ هذا المديح الذاتي لم يكن سوى جزء من الحقيقة. حيث أظهرت تحقيقات صحيفة فرانكفورتَر ألغماينه تسايتونغ الألمانية أنَّ جزءًا مهمًا من التعاون مع المجتمع المدني الفلسطيني أوقفته وبكلِّ بساطة الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية ووزارة الخارجية لألمانية. وبذلك فقد حقَّقت الوزارتان رغبة عبَّرت عنها إسرائيل منذ فترة طويلة وأدَّت في هذه الأثناء أيضًا إلى خلاف داخل الحكومة الألمانية الاتحادية.

صورة من: MOHAMAD TOROKMAN/REUTERS -  "مؤسَّسة الضمير" الإغاثية تدافع عن حقوق الإنسان والأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.  Die Hilfsorganisation "Addameer" setzt sich für palästinensische Häftlinge in israelischen Gefängnissen ein.
تدافع "مؤسَّسة الضمير" الإغاثية عن حقوق الإنسان والأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وهي أيضًا واحدة من المنظمات غير الحكومية التي تتَّهمها إسرائيل في دعم الإرهاب. صورة من: MOHAMAD TOROKMAN/REUTERS

استياء وغضب داخل المنظمات الألمانية المُنفِّذة

والآن يبدو أنَّ هذا الخلاف قد تم حله. ويتَّضح ذلك من "تقرير عملية المراجعة والموافقة على حقيبة الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي للأراضي الفلسطينية" المؤرَّخ بتاريخ الحادي عشر من كانون الأوَّل/ديسمبر 2023. وهذه الوثيقة -المُصنَّفة على أنَّها سرِّية وقد حصلت عليها صحيفة فرانكفورتَر ألغماينه تسايتونغ- تُوَثِّق مراجعة -وتدقيق- تمويل نحو مائة وستين مشروعًا للتعاون التنموي مُوِّلَ جزء منها عبر الدعم الحكومي الثنائي والجزء الآخر عبر ما يُسمى بالمنظمات المُنفِّذة – وهي منظمات غير حكومية ألمانية ومؤسَّسات سياسية ألمانية.

ويَرِد في التقرير "عدم تحديد أية حالة انتهاك حتى مع إجراء المزيد من التدقيق المُكثَّف"، وأنَّ هذا ما أكَّدته أيضًا دائرة الاستخبارات الألمانية الاتحادية. ولكن مع ذلك يذكر التقرير بعد بضع صفحات وبشكل قاطع أنَّ "مشاريع التعاون الجديدة مع المنظمات غير الحكومية الست المصنَّفة لدى إسرائيل على قائمة الإرهاب لن تُمنح موافقات بعد الآن. أمَّا في مشاريع التعاون التي ما تزال مستمرة (...) فستعمل الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية عبر الحوار على وقفها الفوري من خلال الداعمين قبل نهاية مدتها".

وهذا يعني بالتحديد أنَّ بعضًا من أهم منظمات المجتمع المدني في فلسطين سوف تُحرَم من التمويل. وحول ذلك قال موظف لدى إحدى المنظمات الألمانية الناشطة في مجال التعاون التنموي: "نحن نعتقد أنَّ إنهاء الشراكة مع منظمات حقوقية في فترة تزداد فيها انتهاكات حقوق الإنسان يُعتبر عملًا خطيرًا للغاية. ويضر أيضًا بصورة ألمانيا".

ويكمن خلف هذا القرار خلافٌ مستمر منذ عدة سنين بين إسرائيل وألمانيا ودول غربية أخرى. فقد صنَّفت إسرائيل في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2021 ست منظمات غير حكومية فلسطينية كمنظمات إرهابية. وتوجد من بينها منظمات حقوقية معروفة مثل مؤسَّسة الحقّ للدفاع عن حقوق الإنسان. وبحسب المزاعم الإسرائيلية فإنَّ المنظمات غير الحكومية الست هي منظمات تستخدمها في السر "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" PFLP وقد حوَّلت أموال المساعدات إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

جدل بين الوزارات

وقد جاءت من الخارج انتقادات لهذا التصنيف المفاجئ ولم تهدأ حتى عندما قدَّمت إسرائيل موادّ في العواصم الغربية بهدف دعم اتهامات الإرهاب ولكن نتيجتها كانت عكسية: فقد صرَّحت في تمُّوز/يوليو 2022 وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ووزراء خارجية ثماني دول أخرى في الاتحاد الأوروبي في بيان مشترك بأنَّ هذه "الأدلة" الإسرائيلية لم تكن مقنعة، وأنَّ ألمانيا وهذه الدول الأوروبية الثمانية ستواصل دعم المنظمات غير الحكومية الست.

ولكن مع ذلك فقد وجد المبعوثون الإسرائيليون في وزارة ألمانية أخرى آذانًا صاغية أكثر مما وجدوه في وزارة الخارجية: ففي وزارة الداخلية الألمانية الاتحادية -حيث يوجد تعاون بين السلطات الأمنية الألمانية والإسرائيلية-اعتُبِرَتْ الأدلة المقدَّمة جديرة بالتصديق. وأسفر ذلك عن جمود داخل الحكومة الألمانية فيما يتعلق بالموافقة على تمويل مشاريع المنظمات غير الحكومية المتضرِّرة.

والآن أدَّى هجوم حماس على إسرائيل والحرب في قطاع غزة إلى حلّ هذا الجمود. وقد تحدَّثت في هذا الصدد صحيفة فرانكفورتَر ألغماينه تسايتونغ مع موظفين لدى العديد من المنظمات الألمانية المتأثِّرة -بشكل مباشر أو غير مباشر- من هذا القرار. واكتشفت أنَّ الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية ووزارة الخارجية الألمانية لم توافقا مؤخرًا في ثلاث حالات على الأقل على مساعدات مالية جديدة تتعلق ببعض المنظمات غير الحكومية الست.

وبالإضافة إلى ذلك رُفض تمويل منظمة غير حكومية فلسطينية أخرى على الرغم من أنَّها ليست من المنظمات الست المصنَّفة على أنَّها إرهابية. وقد أثار هذا استياءً وغضبًا شديدين لدى بعض المنظمات الألمانية المُنفِّذة. إذ توجد انتقادات للقرار نفسه وكذلك لطريقة الإبلاغ عنه - والتي كانت أحيانًا في محادثات شفهية ومن دون تقديم سبب واضح.

صورة من: Michael Kappeler/dpa/picture alliance - وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك مع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ. Am Sonntag hatte Israels Präsident Izchak Herzog die deutsche Außenministerin empfangen.
وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك مع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ أثناء زيارتها إسرائيل في شهر كانون الثاني/يناير 2024: هل تؤثِّر الحكومة الإسرائيلية على الحكومة الألمانية الاتحادية في عمليات صنع القرار؟. صورة من: Michael Kappeler/dpa/picture alliance

إبعاد في أعقاب السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر

وقالت متحدِّثة باسم الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية -ردًا على استفسار من صحيفة فرانكفورتَر ألغماينه تسايتوغ- إنَّ الحكومة الألمانية الاتحادية "قد قرَّرت قبل السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 عدم مواصلة دعم التعاون مع هذه المنظمات الست". ومع ذلك لا توجد أية معلومات عن مثل هذا القرار. وفي الواقع توجد عدة أشياء تشير إلى أنَّ "مشكلة" المنظمات غير الحكومية الست قد أُبعدت في أعقاب السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 وعملية المراجعة والتدقيق من قِبَل التعاون التنموي الألماني.

ولم يتغير تقييم وزارة الخارجية الألمانية للمنظمات غير الحكومية الست، فهي ما تزال لا تُعتَبر في وزارة الخارجية منظمات إرهابية بل تُعتَبر -بعكس ذلك- دعائم للمجتمع المدني الفلسطيني. ولكن نظرًا إلى الوضع السياسي العام بعد السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 فإنَّ وزارة الخارجية الألمانية يجب عليها في الوقت الراهن القيام بأشياء أكثر أهمية من إقحام نفسها أكثر في نقاشات مع وزارة الداخلية.

ويبدو بالتزامن مع ذلك أنَّ الحكومة الإسرائيلية قد نجحت في تعزيز تأثيرها على عملية صنع القرار في ألمانيا. فقد أكَّدت متحدِّثة باسم الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية لصحيفة فرانكفورتَر ألغماينه تسايتونغ في كانون الأول/ديسمبر 2023 أنَّ إسرائيل قد شاركت في مراجعة وتدقيق التعاون التنموي: وذلك على سبيل المثال من خلال "محادثات منتظمة" مع السفارة الإسرائيلية في برلين. وقد جاء في تقرير الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية أنَّ الوزارة ركَّزت في تحديد أولويات عملية المراجعة والتدقيق على "مراعاة المصالح الإسرائيلية".

زيادة السيطرة على الأراضي المحتلة

ووصفت موظفة في منظمة ألمانية تعمل في الأراضي الفلسطينية هذه الفقرة من التقرير بأنَّها "مثيرة للقلق" و"ملفتة للانتباه". ويعتقد منذ فترة طويلة بعض المراقبين من مجال التعاون التنموي أنَّ إسرائيل أرادت في نهاية المطاف من خلال تصنيفها المنظمات غير الحكومية الست كمنظمات إرهابية أن يكون لها رأي في تدفُّق الدعم المالي من الخارج، حيث يسعى المحتل الإسرائيلي إلى زيادة سيطرته على المجتمع المدني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ولهذا السبب فإنَّ المنظمات الألمانية أيضًا تخشى بعد قرار حظر الدعم من عدم اقتصار هذا القرار على المنظمات غير الحكومية المتضرِّرة حتى الآن. ويقول أحد العاملين فيها إنَّ "استسلام ألمانيا عمل خطير للغاية، لأنَّ ذلك قد يُشجِّع إسرائيل على الاستمرار أكثر في تقييد المجال المتاح للمجتمع المدني".

Here you can access external content. Click to view.

دعوات لمقاطعة المؤسَّسات الألمانية

غير أنَّ بعض المنظمات الفلسطينية قد سهَّلت أيضًا على الحكومة الألمانية الاستسلام للمطالب الإسرائيلية. فقد اختارت مؤسَّسة الحق وغيرها من المنظمات غير الحكومية كلمات حادة للغاية لانتقادها إسرائيل بعد السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 – وقد تجاوزت على ما يبدو الخط الأحمر في نظر الألمان.

فقد اتُّهِمَت إسرائيل –في رسالتين مفتوحتين نُشرتا في خريف 2023 ووقَّعت عليهما العديد من المنظمات غير الحكومية في الشرق الأدنى والشرق الأوسط– بأنَّها تقوم بحملة إبادة في قطاع غزة.

وتتميَّز الرسالتان المعروفتان في هذا الوسط باسم "181" و"255" –وهي أرقام تشير إلى عدد الموقِّعين على الرسالتين– بمصطلحات مثل "الفصل العنصري" أو "الإبادة الجماعية". بالإضافة إلى إنكارهما حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع تأكيدهما على حقِّ الفلسطينيين في المقاومة المسلحة.

هذا وقد صنَّفت الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية الرسالتين على أنَّهما "دعوات معادية لإسرائيل". وإثر ذلك طلبت وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية ووزارة الخارجية الألمانية من منظمات التعاون التنموي إبلاغهما إنْ كان يوجد شركاء تمويل أيضًا من بين الموقِّعين على الرسالتين. وأضافت الوزارتان: في حال قيامهم بذلك سيُسألون إن كانوا ينأون بأنفسهم عن مضمون الرسالتين؛ وفي حال عدم فعلهم ذلك فسيتم حرمانهم في الوقت الحالي من الحصول على تمويل إضافي. وقد حدث ذلك في حالة واحدة على الأقل.

ينتقد الكثير من العاملين في مجال التعاون التنموي هذا النهج باعتباره "اختبارًا للقناعات". وقد لخَّصت موظفة ألمانية رد فعل إحدى المنظمات الشريكة في غزة كما يلي: "نحن هنا في حرب ومن المفترض بنا الآن فوق ذلك أيضًا أن نتَّخذ موقفًا يُرضي الحكومة الألمانية – وإلَّا فلن نحصل على مزيد من المال". بينما قال شخص آخر إنَّ الرسالتين "تعكسان موقفًا منتشرًا على نطاق واسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". وأضاف أنَّهما لا تتوافقان طبعًا مع رأيه الخاص، ولكن معظم الحجج الواردة فيهما مبنية على أساس قانوني: "يجب علينا أن نتحمَّل مثل هذه المواقف".

وهكذا يستمر المزاج العام تجاه ألمانيا في الاستياء. وقد باتت تنتشر في هذه الأثناء على شبكة الإنترنت دعوات إلى مقاطعة المؤسَّسات الألمانية وكذلك المؤسَّسات الفلسطينية المتعاونة مع ألمانيا. ولذلك فقد قامت بعض المؤسَّسات الألمانية في رام الله بإنزال العلم الألماني لأسباب أمنية. وفقدت إحدى المنظمات الألمانية في حالة واحدة على الأقل شريكًا لها لأنَّه لم يَعُدْ يرغب في قبول أي دعم مالي من ألمانيا.

 

 

كريستيان مايَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: فرانكفورنَر ألغماينه تسايتونغ / موقع قنطرة 2024

ar.Qantara.de